الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
اللفظ الثالث : التوحيد وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمى المتكلمون العلماء بالتوحيد مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع فلقد كان ذلك معلوما للكل وكان العلم بالقرآن هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله فهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل كما سيأتي بيانه في كتاب التوكل .

ومن ثمراته أيضا ترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم والرضا والتسليم لحكم الله تعالى .

وكانت إحدى ثمراته قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قيل له في مرضه أنطلب لك طبيبا فقال ؟ : الطبيب أمرضني ، وقول آخر : لما مرض فقيل له : ماذا قال لك الطبيب في مرضك فقال : قال لي : إني فعال لما أريد .

وسيأتي في كتاب التوكل وكتاب التوحيد شواهد ذلك .

والتوحيد جوهر نفيس وله قشران أحدهما أبعد عن اللب من الآخر فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية فالقشر الأول هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله ، وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث الذي صرح به النصارى ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره .

والقشر الثاني أن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده وكذلك التصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة .

والثالث : وهو اللباب أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال الله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال صلى الله عليه وسلم : أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى ويخرج من هذا التوحيد التسخط على الخلق والالتفات إليهم فإن من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين

التالي السابق


(اللفظ الثالث: التوحيد) وهو في الأصل معرفة وحدانية الله -عز وجل- بكمال نعوته (وقد جعل الآن عبارة عن صنعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة) مع الخصوم (والإحاطة بمناقضة) أدلة (الخصوم) إجمالا وتفصيلا (والقدرة على التمشدق) وفي نسخة: على التشدق أي: التكلم بملء الأشداق (فيها) أي في تلك المناقضة (بتكثير الأسئلة) عليهم (وإنارة الشبهات) لارتداعهم (وتأليف الإلزامات) التي تبهتهم وتسكتهم (حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد) وهم المعتزلة (وسمى المتكلمون) وهم علماء الكلام (العلماء بالتوحيد) خاصة (مع أن جميع ما هو خاصية هذه الصناعة) أعني الكلامية من ذكر البراهين وإيراد الشبه (لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول) هو عصر الصحابة والتابعين (بل كان يشتد النكير) أي: الإنكار (منهم على من كان يفتح باب الجدل والمماراة) أي: المخاصمة كما سيأتي ذلك عن سيدنا عمر، وتقدم ضربه صبيغا بالدرة، وكذا غيره من الصحابة ومن بعدهم، فإنهم كان يفرون من ذلك ويجعلون المشتغل به مبتدعا .

(فأما ما يشتمل عليه القرآن) ظاهره (من الأدلة الظاهرة) والبراهين القاطعة الدالة على توحيده -عز وجل- (التي تسبق الأذهان) السليمة عن الشكوك (إلى قبولها في أول السماع) والتلقي (فلقد كان معلوما للكل) لا يختلف فيه اثنان (وكان العلم بالقرآن) أي بما تضمنه من الأحكام (هو العلم كله) لا يخرج عنه شيء (وكان التوحيد عندهم) في العصر الأول (عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين) ولا يحومون حماه (وإن) كشف لجماعة منهم و (فهموه لم يقوموا به) وفي نسخة: لم يتصفوا به أي: لم تظهر عليهم آثار ذلك الأمر لعدم انفعال طبيعته المحجوبة لقبول ذلك الأثر (وهو أن ترى الأمور كلها من الله) ، وهذا مشهد من يفرغ إناءه الذي هو القلب من الأغيار وإليه الإشارة بقوله (رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط) وهو أعلى درجات الموحدين السالكين يرجون رحمته أي: رؤيته ويخافون عذابه أي: حجابه وهم التاركون المساوي الدينية المتلبسون بالمحاسن السنية، هم أهل المحبة اللدنية، ومحبة العبد هذه هي السبب في محبة الله له بشرط فنائه في رؤية هذا السبب وسائر الحظوظ بنفي نسبة شيء من ذلك كله إليه (فلا يرى الخير والشر إلا منه) تعالى وللموحدين فيها مراتب: أعلاها هو التوحيد الخالص ويتحقق به الموحد بعد نفي رؤية الفناء; لأنها تسمى عندهم الشرك الأصغر (وهذا أمر شريف) يحصل به كل الهناء؛ لأن هذه الحضرة شرابها صرف وهي تسمى حضرة الجمال أي: جمال ذات الله والتي قبلها مزاج وتسمى حضرة الجلال، والسالكون ثلاثة: جلالي وهو إلى الشريعة أميل وجمالي إلى الحقيقة أميل وكمالي جامع لهما على حد سواء، هو منهما أفضل وأكمل لترقيه إلى حضرة الجمال والمشاهدة للوفاء بحقوق الحقيقة وتدليه إلى حضرة الجلال للمجاهدة، والقيام بحقوق الشريعة [ ص: 237 ] (إحدى ثمراته التوكل) على الله -عز وجل- (كما سيأتي في كتاب التوكل) إن شاء الله تعالى (ومن ثمراته أيضا ترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم) في أمر من الأمور؛ لأن الشكاية والغضب ينافيان التوحيد (و) من ثمرات التوحيد الخالص (الرضا) بما قدره الله تعالى (والتسليم لحكم الله تعالى) بانشراح صدر (وكان إحدى ثمراته قول أبي بكر) الصديق ( -رضي الله عنه- لما قيل له في مرضه أنطلب لك الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، وقول آخر: لما مرض وقيل له: ماذا قال لك الطبيب فقال: قال: إني فعال لما أريد) قلت: هذا القول الأخير الذي نسبه لآخر هو المروي الثابت عن حضرة الصديق أخرجه ابن الجوزي في كتاب الثبات للممات وأبو نعيم في الحلية كلاهما من طريق عبد الله بن أحمد، حدثني أبي حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن أبي السفر، قال مرض أبو بكر فعاده الناس فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب قال: قد رآني قالوا: فأي شيء قال؟ قال: إني فعال لما أريد، وأما القول الأول فلم أره لحضرة الصديق وقد أخرجه أبو عبد الله الثقفي في فوائده من رواية أبي ظبية قال: مرض عبد الله بن مسعود فعاده عثمان -رضي الله عنهما- فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا أدعو لك الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. الحديث بطوله .

وأخرجه الحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن السني والبيهقي في الشعب وابن عبد البر في التمهيد والبقلي بأسانيد كلها تدور على السري بن يحيى عن أبي شجاع عن أبي ظبية، وقد تكلم في الحديث بسبب انقطاعه فإن أبا ظبية لم يدرك ابن مسعود، أمليته في جامع شيخو الغمري، وأخرج أبو نعيم في ترجمة أبي الدرداء -رضي الله عنه- بسنده إلى معاوية بن قرة أن أبا الدرداء اشتكى فدخل عليه أصحابه فقالوا: ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، قالوا: أولا ندعو لك جليسا؟ قال: هو أفجعني (وستأتي شواهده في كتاب التوكل) إن شاء الله تعالى (وكان التوحيد جوهرا نفيسا) وفي بعض النسخ فكان للتوحيد جوهر نفيس (وله قشران أحدهما أبعد عن اللب من الآخر فخص الناس الاسم) أي: اسم التوحيد (بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر) أي: الحفظ له (وأهملوا) أي تركوا هذه الكلمة المباركة (لا إله إلا الله، وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث الذي يصرح به النصارى في كتبهم) وهو قولهم: إن الله ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (لكنه) أي: هذا التوحيد (قد يصدر عن المنافق الذي يخالف سره جهره) فيعد بذلك من أهل الإسلام ولكنه على غير إيقان وإخلاص من قلبه .

(القسم الثاني أن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول) بل بانشراح الصدر وعدم التردد فيه (بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده ذلك) ولا يخالف اللسان (والتصديق به وهو توحيد عوام الخلق) كما أن الأول لبعض العوام أيضا (والمتكلمون كما سبق حراس هذه القشرة) وفي نسخة: هذا القشر ( عن تشويش المبتدعة) أي: عن إدخالهم الشبه في هذا التوحيد ما يشوش بها أذهانهم والتشويش مولدة .

(الثالث: وهو اللباب) المحض (أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط) والأسباب كما تقدم قريبا (وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره) .

قال القشيري في الرسالة: سئل ذو النون المصري عن التوحيد فقال: أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا مزاج وصنعه للإنسان بلا علاج وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، ومهما تصور في فهمك ونفسك شيء فالله تعالى بخلافه، وسئل الجنيد عن التوحيد فقال: إقرار الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد ينفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وسئل مرة عن توحيده الخاص فقال: أن يكون العبد شبحا بين يدي الله -عز وجل- تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته في لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوة الخلق له، وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته في حقيقة قربه بذهاب حسه وحركة [ ص: 238 ] لقيام الحق له فيما أراد منه وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان قبل أن يكون، وقال مرة: التوحيد الذي انفرد به الصوفية هو إفراد القدم عن الحدث والخروج عن الأوطان وقطع المحاب وترك ما علم وجهل، وأن يكون الحق مكان الجميع، وقال أيضا: علم التوحيد طوي بساطه منذ عشرين سنة والناس يتكلمون في حواشيه .

وقال أبو سعيد الخراز: أول مقام لمن وجد علم التوحيد وتحقق بذلك فناء ذكر الأشياء عن قلبه وانفراده بالله تعالى. اهـ .

ما لخصته من الرسالة (ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى) وهو ميل النفس إلى الشيء وقد غلب على الميل المذموم، وأخرج القشيري في الرسالة من حديث جابر رفعه: أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وقال ذو النون: مفتاح العبادة الفكرة وعلامة الإصابة مخالفة النفس والهوى، وعلامة مخالفتها ترك شهواتها .

وقال سهل ما عبد الله تعالى بمثل مخالفة النفس والهوى (وكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده) وهو ينافي توحيد الله تعالى (قال الله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) أي: ما تميل إليه نفسه والأصل من اتخذ هواه إلهه فقلب (وقال -صلى الله عليه وسلم-: أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى) .

قال العراقي: أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن الحسن بن دينار عن الخطيب بن مجدر عن راشد بن سعد عن أبي أمامة رفعه بلفظ: ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع. ورواه أبو نعيم في الحلية من رواية بقية عن عيسى بن إبراهيم عن راشد وكل من الخطيب وعيسى متروكان. انتهى .

(وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس بعبد الصنم إنما يعبد هواه) أي: ما أمالته نفسه إليه (إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه) وجدوده (فيتبع ذلك الميل) فيكون عابدا له (وميل النفس إلى المألوفات) والشهوات (أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى) أشار به إلا اختلافهم في معنى الهوى، فقيل: هو ميل النفس إلى الشيء ومحبتها إياه وقد غلب على الميل المذموم قال تعالى: ونهى النفس عن الهوى ، وقال بعضهم: هو على الإطلاق مذموم، ثم يضاف إلى ما لا يذم، فيقال هو أي: مع صاحب الحق أي: ميلي، وقيل: هو ميل النفس إلى المألوفات وقيل: سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية، قاله السمين، ومما ذكره المصنف فسر قوله تعالى: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في أحد فصول المقدمة فراجعه (ويخرج من هذا التوحيد) بالمعنى السابق (ترك التسخط) وهو التغضب على الخلق (والالتفات إليهم) في أمر من الأمور (فإن من يرى) في عقيدته (أن الكل من الله) تعالى (كيف يتسخط على غيره) أم كيف يلتفت إلى ما سواه (فقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين) وإليه أشار رويم فقال: التوحيد محو آثار البشرية وتجرد الإلهية، وقال ابن عطاء: حقيقة التوحيد نسيان التوحيد وهو أن يكون القائم به واحدا ويقال من الناس من يكون في توحيده مكاشفا بالأفعال يرى الحادثات بالله، ومنهم من هو مكاشف بالحقيقة، فيضمحل إحساسه بما سواه فهو يشاهد الجمع سرا بسر وظاهره بوصف التفرقة، وقد ذكر المصنف في كتابه الإملاء على مشكل الإحياء سر انقسام التوحيد على أربعة أقسام تشبها بالجوز لأنه لا يخلو العاقل أن يوجد فيه أثر التوحيد أو لا يوجد ومن يوجد فيه لا يخلو أن يكون مقلدا في عقده أو عالما به، فالمقلدون هم العوام والعلماء بحقيقة عقدهم لا يخلو واحد منهم أن يكون بلغ الغاية المطلوبة التي أعدت لصنفه دون النبوة أو لم يبلغ ولكنه قريب من البلوغ فالذي لم يبلغ وكان على قرب هم المقربون وهم أهل المرتبة الثالثة، والبالغون هم الصديقون وهم أهل المرتبة الرابعة، ثم قسم أرباب النطق إلى أربعة أصناف: أحدهم نطقوا بكلمة التوحيد ثم لم يعتقدوا معنى ما نطقوا به، الثاني: نطقوا ولكن أضافوا إلى قولهم ما لا يحصل مع الإيمان وهم الزنادقة، الثالث: نطقوا ولكنهم أسروا التكذيب واستبطنوا ما ظهر منهم من الإقرار وهم المنافقون [ ص: 239 ] الرابع: نطقوا وهم على الجهل بما يعتقدون فيها، وحكم الصنف الأول والثاني والثالث من زمرة الهالكين ولما كان اللفظ المنبئ عن التوحيد إذا انفرد العقد لم يقع له في حكم الشرع منفعة ولا لصاحبه نجاة الا مدة حياته عن السيف واليد، حسن فيه أن يشبه بقشر الجوز الأعلى .

ثم قسم أهل الاعتقاد المجرد إلى ثلاثة أصناف: الأول اعتقدوا مضمون ما أقروا به من غير ترديد غير عارفين بالاستدلال، الثاني: اعتقدوا مع ذلك ما قام في نفوسهم أنها أدلة وبراهين وليست كذلك، الثالث: مع ذلك استبعدوا طريق العلم وقنعوا بالقعود في حضيض الجهل ثم ذكر في أصناف أهل الاعتقاد تفصيلا آخر ثم قال: ولما كان الاعتقاد المجرد عن العلم بصحته ضعيفا ألقى عليه شبه القشر الثاني من الجوز لأن ذلك القشر يؤكل مع ما هو عليه صوان وإذا انفرد أمكن أن يكون طعاما للمحتاج .

ثم ذكر لتوحيد المقربين ثلاثة حدود والأسباب الموصلة إليه وحقيقته وثمراته، ثم ذكر لأرباب هذا المقام ثلاثة أصناف وقال: إنما سموا أهل هذه المرتبة المقربين لبعدهم عن ظلمات الجهل وقربهم من نيرات المعرفة، ثم قال في توحيد الصديقين وأما أهل المرتبة الرابعة، فهم قوم رأوا الله تعالى وحده، ثم رأوا الأشياء بعد ذلك به فلم يروا في الدارين غيره ولا اطلعوا في الوجود على سواه، وأهل هذه المرتبة صنفان مريدون ومرادون فالمريدون في الغالب لا بد لهم أن يحلوا في المرتبة الثالثة، وهي توحيد المقربين ومنها ينتقلون إلى المرتبة الرابعة، وأما المرادون فهم في الغالب مبتدئون بمقامهم الأخير وهي المرتبة الرابعة ومتمكنون فيها، ومن أهل هذا المقام يكون القطب والأوتاد والبدلاء ومن أهل المرتبة الثالثة يكون النقباء والنجباء والشهداء والصالحون والله أعلم .




الخدمات العلمية