الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومهما عجل فمات المسكين قبل الحول أو ارتد أو صار غنيا بغير ما عجل إليه أو تلف مال المالك أو مات فالمدفوع ليس بزكاة واسترجاعه غير ممكن إلا إذا قيد الدفع بالاسترجاع فليكن المعجل مراقبا آخر الأمور ، وسلامة العاقبة

التالي السابق


ثم شرع المصنف في بيان الطوارئ المانعة عن الإجزاء في المعجل؛ فالشرط في كون المعجل مجزئا، أما في القابض أن يبقى بصفة الاستحقاق إلى آخر الحول، وأما في المالك بأن يبقى بصفة وجوب الزكاة عليه إلى آخر الحول، أشار إلى الأول بقوله: (ومهما عجل فمات) المستحق القابض للزكاة، وهو (المسكين) مثلا (قبل) كمال (الحول أو ارتد) قبله كذلك، (أو صار غنيا بغير ما عجل) أي: دفع (إليه) على سبيل التعجيل، ومقتضاه: إن استغنى بالمدفوع إليه أو به وبمال آخر لم يضر، فإن الزكاة إنما تصرف إليه ليستغني، فلا يصير ما هو المقصود مانعا من الإجزاء، وإن استغنى بمال آخر كما أشار إليه المصنف لم يحسب المعجل عن الزكاة بخروجه عن أهلية أخذ الزكاة عند الوجوب، وإن عرض شيء في الحالات المانعة ثم زال وكان بصفة الاستحقاق عند تمام الحول ففيه وجهان؛ أحدهما: أنه لا يجزئ المعجل كما لو لم يكن عند الأخذ من أهله، ثم صار عند تمام الحول؛ فإنه لا يجزئ بلا خلاف، وأصحهما: أنه يجزئ اكتفاء بالأهلية في طرف الوجوب والأداء، هذا ما يشترط في القابض، وأشار إلى الثاني بقوله: (أو تلف مال المالك) جميعه أو باعه، أو نقص عن النصاب، (أو مات) ، وكذا لو ارتد، وقلنا: الردة تمنع وجوب الزكاة عليه، (فالمدفوع) في هذه الصور (ليس بزكاة) ، وهل يجب في صورة الموت عن زكاة الوارث؟ نقل عن نصه في الأم: أن المعجل يقع عن الوارث، وإذا فرعنا على الصحيح الجديد أن الوارث لا يبنى على حول الموروث فلا يجزئ المعجل عن الوارث؛ لأنه مالك جديد، وذلك المعجل تقدم على النصاب، والحول في حقه هذا هو الأظهر، ومنهم من قال: يجزئه كما ذكر في الأم، وهو جواب على أحد الوجهين في تعجيل صدقة عامين، فيجعل السنة المستأنفة في حق الوارث كالسنة الثانية في حق المعجل، ثم أشار المصنف رحمه الله إلى حكم الرجوع عند طريان هذه الأحوال، فقال: (واسترجاعه) أي: من يد القابض (غير ممكن إلا إذا قيد الدفع بالاسترجاع فليكن المعجل مراقبا آخر الأمر، وسلامة العاقبة) يعني: إذا دفع الزكاة المعجلة إلى الفقير، وقال: إنها معجلة، فإن عرض مانع استرددت فله الاسترداد إن عرض مانع، وإن اقتصر على قوله: هذه زكاة معجلة وعلم القابض ذلك ولم يذكر الرجوع، فهل له الاسترداد عند عروض ما يمنع؟ وجهان حكاهما الشيخ أبو محمد وغيره؛ أحدهما: لا؛ لأن العادة جارية بأن المدفوع إلى الفقير لا يسترد، فكأنه ملكه بالجهة المعينة إن وجد شرطها وإلا فهو صدقة، وصار كما لو صرح وقال: هذه زكاتي المعجلة، فإن وقعت الموقع فذلك وإلا فهو نافلة، وهذا معنى قول المصنف: واسترجاعه غير ممكن، وأصحهما ولم يذكر المعظم غيره: أن له الرجوع؛ لأنه عين الجهة، فإذا بطلت رجع .

قال صاحب الوجه الأول: وهذا مشكل بما إذا قال: هذه الدراهم عن مالي الغائب، وكان تالفا؛ فإنه يقع صدقة، ولا يتمكن من الرجوع إلا إذا شرط الرجوع بتقدير تلف الغائب .

أجاب الصيدلاني بأنه إذا تعرض لكونها معجلة فقد تعرض للرجوع إن عرض مانع، وقد ظهر من هذا أن المصنف مشى على الوجه الأول، تبعا لوالد شيخه، ولو جرى الدفع من غير تعرض للتعجيل ولا علم القابض به، فهل يثبت الاسترداد؟ ظاهر نصه في المختصر أنه إن كان المعطى الإمام يثبت، وإن أعطى المالك بنفسه فلا يثبت، وللأصحاب فيه طريقان:

أحدهما: تقرير النصين، والفرق أن المالك يعطي من ماله الفرض والتطوع، فإذا لم يقع عن الفرض وقع تطوعا، والإمام يقسم مال الغير فلا يعطي إلا الفرض، وكان مطلق دفعه كالمقيد بالفرض، وهذا هو الذي ذكره القاضي ابن كج وعامة العراقيين. والثاني: أنه لا فرق بين الإمام والمالك؛ لأن الإمام قد يتصدق بمال نفسه كما يعرف مال الغير، وبتقدير لا يقسم إلا الفرض لكنه قد يكون [ ص: 94 ] معجلا، وقد يكون في وقته، واختلف هؤلاء على طريقين: أحدهما: تنزيل النصين على حالين؛ حيث قال: يثبت الرجوع؛ فذلك عند وقوع تعرض التعجيل، وحيث قال: لا يثبت، فذلك عند إهماله .

والثاني: أن فيها قولين نقلا وتخريجا، أحدهما: أنه يثبت الرجوع كما لو دفع مالا إلى غيره على ظن أن له عليه دينا فلم يكن له الاسترداد، والثاني: لا يثبت؛ لأن الصدقة تنقسم إلى فرض وتطوع، وإذا لم تقع فرضا تقع تطوعا، فإن قلنا: يثبت الاسترداد وإن لم يتعرض للتعجيل ولا علمه القابض لها، قال المالك: قصدت التعجيل، ونازعه القابض؛ فالقول قول المالك مع اليمين، فإنه أعرف بنيته ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهته، ولو ادعى المالك علم القابض بأنها كانت معجلة؛ فالقول قول القابض؛ لأن الأصل عدم العلم، والغالب هو الأداء في الوقت، وإن قلنا: لا يثبت الاسترداد عند عدم التعرض للتعجيل وعلم القابض، فلو تنازعا في أنه هل شرط الرجوع أو لا؟ ففيه وجهان:

أحدهما: أن القول قول المالك مع يمينه؛ لأنه المؤدي، وهو أعرف بنيته وأظهرهما، ولم يذكر في العدة غيره أن القول قول المسكين مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الاشتراط والغالب يكون الأداء في الوقت، ولأنهما اتفقا على انتقال اليد والملك، والأصل استمرارها .



(تنبيه)

قال إمام الحرمين وغيره: لا يحتاج مخرج الزكاة إلى لفظ أصلا، بل يكفيه دفعها، وهو ساكت؛ لأنها في حكم دفع إلى مستحق، قال: وفي صدقة التطوع تردد، والظاهر الذي عليه الناس كافة: أنه لا يحتاج إلى لفظ أيضا .



(فصل)

وقال أصحابنا: لا استرداد في المعجلة وإن عرض مانع إلا إذا كان المال بعد في يد الإمام أو الساعي، وفي شرح الكنز: المقدم يقع زكاة إذا تم الحول والنصاب كامل، فإن لم يكن كاملا فإن كانت الزكاة في يد الساعي يستردها؛ لأن يده يد المالك حتى يكمل به النصاب بما في يده ويد الفقير أيضا حتى تسقط عنه الزكاة بالهلاك في يده فيسترده منه إن كان باقيا، ولا يضمنه إن كان هالكا، والله أعلم .




الخدمات العلمية