الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فهذا أمر غامض ولا ينفك قلب أحد عنه فما دواؤه فاعلم أن له دواء باطنا ودواء ظاهرا ، أما الباطن فالمعرفة بالحقائق التي ذكرناها في فهم الوجوب وأن ، الفقير هو المحسن إليه في تطهيره بالقبول .

وأما الظاهر فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلب بالأخلاق كما سيأتي أسراره في الشطر الأخير من الكتاب ولهذا كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير ويتمثل قائما بين يديه حتى يسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذلك كراهية لو رده وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير من كفه وتكون ؛ يد الفقير هي العليا .

وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفا إلى فقير قالتا للرسول : احفظ ما يدعو به ، ثم كانتا تردان عليه مثل قوله وتقولان : هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا ، فكانوا لا يتوقعون الدعاء لأنه شبه المكافأة وكانوا يقابلون الدعاء بمثله وهكذا فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما وهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة ، ومن حيث الباطن المعارف التي ذكرناها هذا من حيث العمل وذلك من حيث العلم .

ولا يعالج القلب إلا بمعجون العلم والعمل وهذه الشريطة من الزكوات تجري مجرى الخشوع من الصلاة وثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : لا يتقبل الله صدقة منان وكقوله عز وجل : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى وأما فتوى الفقيه بوقوعها موقعها وبراءة ذمته عنها ، دون هذا الشرط فحديث ، آخر وقد أشرنا إلى معناه في كتاب الصلاة .

التالي السابق


(فإن قلت : فهذا أمر غامض) خفي المدرك، (ولا ينفك قلب أحد عنه) بحكم التسويل الشيطاني (فما دواؤه) أي: علاجه الذي يداوى به هذا المرض الخفي، (فاعلم أن له دواء باطنا ودواء ظاهرا، أما) الدواء (الباطن فالمعرفة) الخاصة (بالحقائق) هي المعاني الثلاثة (التي ذكرناها في فهم الوجوب، و) خلاصته معرفة (أن الفقير هو المحسن إلى الغني في تطهيره) عن رذيلة البخل وتطهير ماله (بالقبول) ، فمتى عرف هذا المعنى وتأمل فيه زال ما في قلبه من الريبة والتردد، (وأما) الدواء (الظاهر فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة) على عنقه (فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلوب بالأخلاق) وتؤثر سرها فيها (كما ستأتي أسراره في الشطر الأخير من الكتاب) إن شاء الله تعالى، فإذا وصلت إلى الفقير معروفا فبحسن أدب ولين ولطف كلام وتواضع وتذلل؛ (ولذلك كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير) على الأرض (ويمثل قائما بين يديه ويسأله قبولها) منه (حتى يكون هو في صورة السائلين) [ ص: 123 ] ولا يناله بيده عظاما، (وهو يستشعر مع ذلك كراهية الرد) منه (لوردت عليه) . نقله صاحب القوت، (وكان بعضهم) إذا أراد أن يدفع إلى فقير شيئا (يبسط كفه) بالعطاء (ليأخذ الفقير منه؛ لتكون يد الفقير هي العليا) ويد المعطي هي السفلى. نقله صاحب القوت، قال: فإذا دعا لك مسكين عند الصدقة فاردد عليه مثل دعائه حتى يكون ذلك جزاء لقوله، وتخلص لك صدقتك، وإلا كان دعاؤه مكافأة على معروفك. (وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفا) أي: صدقة (إلى فقير) ، وأصل المعروف ما يعرفه الشرع من الخير والرفق والإحسان، ومنه قولهم: من كان آمرا بالمعروف فليأمر بالمعروف أي: من أمر بخير فليأمر برفق (قالتا للرسول: احفظ ما يدعو به، ثم كانتا تردان عليه مثل قوله) في الدعاء، (وتقولان : هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا، فكانوا لا يتوقعون الدعاء) منه في تلك الحالة؛ (ولأنه شبه المكافأة) على المعروف فكانوا يتحفظون من ذلك و (يقابلون الدعاء بمثله) ، وهو أقرب إلى التواضع، وأن لا ترى أنك مستحق لذلك لما وصلت به؛ لأنك عامل في واجب عليك لمعبودك أو توفي للمعطي رزقه وما قسم له من تعبدك بذلك، (وهكذا فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما) في مقابلة الدعاء بمثله، (فهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم) ، وهو يدل على معرفة العبد بربه وحسن أدبه في عبادته، ومن أحب الثناء والذكر على معروفه كان ذلك حظه منه وبطل أجره، وربما كان عليه فضل من الوزر لمحبته الثناء والذكر فيما لله تعالى أن يفعله أو في رزق الله تعالى لعبده الذي أجراه على يده، فإن تخلص سواء بسواء، فما أحسن حاله! (ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة، ومن حيث الباطن المعارف التي ذكرناها) آنفا، (هذا من حيث العمل وذلك من حيث العلم) ، والمرض المذكور منبعه القلب، (ولا يعالج القلب) إذا وجد فيه هذا الداء (إلا بمعجون) مركب من (العلم والعمل) ، فبعض أجزائه من العلم وبعضها من العمل؛ ليتعادل في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، (وهذه شريطة في الزكوات تجري مجرى الخشوع من الصلاة) ، وكل منهما ثابت بالكتاب والسنة، (ثبت ذلك) بقوله تعالى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وبقوله تعالى: الذين هم في صلاتهم خاشعون (وبقوله صلى الله عليه وسلم: ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها) . تقدم الكلام عليه في كتاب الصلاة، (وثبت هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: لا يقبل صدقة منان) . تقدم الكلام عليه قريبا، وأنه لم يرو بهذا اللفظ، وإنما معناه في حديث الترمذي وغيره، (وبقوله عز وجل: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) ، وهو يدل على أن المنان صدقته باطلة، (وأما فتوى الفقيه بوقوعها) أي: الزكاة (موقعها وبراءة ذمته منها، فهو دون هذا الشرط، وفي حديث آخر) لكل مقام مقال. (وقد أشرنا إلى معناه في كتاب الصلاة) فراجعه وقس عليه .




الخدمات العلمية