الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فأما مدخل الخداع في الإسرار فمن ميل الطبع إليه ؛ لما فيه من خفض الجاه والمنزلة وسقوط القدر عن أعين الناس ونظر الخلق إليه بعين الازدراء وإلى المعطي بعين المنعم ، المحسن فهذا هو الداء الدفين ويستكن في النفس والشيطان ، بواسطته يظهر معاني الخير حتى يتعلل بالمعاني الخمسة التي ذكرناها .

ومعيار كل ذلك ومحكه أمر واحد ، وهو أن يكون تألمه بانكشاف أخذه الصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض نظرائه وأمثاله فإنه إن كان يبغي صيانة الناس عن الغيبة والحسد وسوء الظن أو يتقي انتهاك الستر أو إعانة المعطي على الإسرار أو صيانة العلم عن الابتذال فكل ذلك مما يحصل بانكشاف صدقة أخيه فإن كان انكشاف أمره أثقل عليه من انكشاف أمر غيره فتقديره الحذر من هذه المعاني أغاليط وأباطيل من مكر الشيطان وخدعه فإن إذلال العلم محذور من حيث إنه علم لا من حيث إنه علم زيد أو علم عمرو .

والغيبة ، محذورة من حيث إنها تعرض لعرض مصون لا من حيث إنها تعرض لعرض زيد على الخصوص ، ومن أحسن من ملاحظة مثل هذا ربما يعجز الشيطان عنه وإلا فلا يزال كثير العمل قليل الحظ .

وأما جانب الإظهار فميل الطبع إليه من حيث إنه تطييب لقلب المعطي واستحثاث له على مثله وإظهاره عند غيره أنه من المبالغين في الشكر حتى يرغبوا في إكرامه وتفقده وهذا داء دفين في الباطن والشيطان لا يقدر على المتدين إلا بأن يروج عليه هذا الخبث في معرض السنة ، ويقول له : الشكر من السنة والإخفاء من الرياء ويورد عليه المعاني التي ذكرناها ليحمله على الإظهار وقصده الباطن ما ذكرناه ومعيار ذلك ومحكه أن ينظر إلى ميل نفسه إلى الشكر ؛ حيث لا ينتهي الخبر إلى المعطي ولا إلى من يرغب في عطائه وبين يدي جماعة يكرهون إظهار العطية ويرغبون في إخفائها ، وعادتهم أنهم لا يعطون إلا من يخفي ولا يشكر .

فإن استوت هذه الأحوال عنده فليعلم أن باعثه هو إقامة السنة في الشكر والتحدث بالنعمة وإلا فهو مغرور .

ثم إذا علم أن باعثه السنة في الشكر فلا ينبغي أن يغفل عن قضاء حق المعطي فينظر فإن كان هو ممن يحب الشكر والنشر فينبغي أن يخفي ولا يشكر لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم ، وطلبه الشكر ظلم .

وإذا علم من حاله أنه لا يحب الشكر ولا يقصده ، فعند ذلك يشكره ويظهر صدقته ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي مدح بين يديه : ضربتم عنقه لو سمعها ما أفلح مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يثني على قوم في وجوههم لثقته بيقينهم وعلمه بأن ذلك لا يضرهم ، بل يزيد في رغبتهم في الخير ، فقال لواحد إنه سيد أهل الوبر وقال صلى الله عليه وسلم في آخر إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه وسمع كلام رجل فأعجبه ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن من البيان لسحرا وقال صلى الله عليه وسلم إذا علم أحدكم من أخيه خيرا فليخبره ؛ فإنه يزداد رغبة في الخير وقال صلى الله عليه وسلم إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه وقال الثوري : من عرف نفسه لم يضره مدح الناس وقال أيضا ليوسف بن أسباط إذا أوليتك معروفا كنت أنا أسر به منك ورأيت ذلك نعمة من الله عز وجل علي فاشكر وإلا فلا تشكر .

ودقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يراعي قلبه فإن أعمال الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان وشماتة له لكثرة التعب وقلة النفع ومثل هذا العلم هو الذي يقال فيه إن تعلم مسألة واحدة منه أفضل من عبادة سنة إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمل وبالجهل به تموت عبادة العمل كله وتتعطل ، وعلى الجملة فالأخذ في الملأ والرد في السر أحسن المسالك وأسلمها فلا ينبغي أن يدفع بالتزويقات إلا أن تكمل المعرفة بحيث يستوي السر والعلانية وذلك هو الكبريت الأحمر الذي يتحدث به ولا يرى نسأل الله الكريم حسن العون والتوفيق .

التالي السابق


(فأما مدخل الخداع في الأسرار فمن ميل الطبع إليه؛ لما فيه من حفظ الجاه والمنزلة) عند الناس (و) فيه أيضا (توقى سقوط القدر) أي: المظلم (من أعين الناس) توقى (نظر الناس إليه بعين الازدراء) أي: الاحتقار، (وإلى المعطي بعين المنعم، المحسن إليه) ؛ فالطبع مائل إلى الهروب، ومن ذلك كله (فهذا هو الداء الدفين) أي: المدفون الذي يعجز عن معالجته، (ويسكن) أي: يستقر (في النفس، والشيطان بواسطته يظهر معاني الخير) ويزينها [ ص: 181 ] في العين (حتى يتعلل بالمعاني الخمسة التي ذكرناها) قريبا في الأسرار، (ومعيار كل ذلك) أي: مقياسه، (ومحكمه) ، وهو الحجر الذي يحك عليه الذهب أو الفضة ليختبر (أمر واحد، وهو أن يكون تألمه بانكشاف أخذه للصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض أقرانه وأمثاله) ونظرائه، (فإنه إن كان يبغي) أي: يطلب (صيانة الناس) وحفظهم (عن) الاتصاف بالأوصاف الذميمة؛ مثل (الغيبة والحسد وسوء الظن) والتهمة، (أو يتقي) أي: يتحفظ (انتهاك الستر) وكشف الحال (أو) يقصد (إعانة المعطي على الأسرار أو) يريد (صيانة العلم عن الابتذال) أو أهله عن الامتهان، (فكل ذلك يحصل بانكشاف صدقة أخيه) من أقرانه، (فإن كان انكشاف أمره) في نفسه (أثقل عليه من انكشاف غيره) من إخوانه (فتقديره الحذر) والهروب (عن هذه المعاني أغاليط) جمع أغلوطة (وأباطيل) جمع باطل (من) جملة (مكر الشيطان وخدعه) وتلبيساته، (فإن إذلال العلم محذور) منهي عنه (من حيث إنه علم لا من حيث إنه علم زيد أو علم عمرو، وكذا الغيبة محذورة من حيث إنها تعرض لعرض مصون) محفوظ (لا من حيث إنها تعرض لعرض زيد على الخصوص، ومن أحسن ملاحظة هذا) بهذا الوجه الدقيق (ربما يعجز الشيطان عنه) ، ولا يكون له عليه سبيل ولا مدخل، (وإلا فلا يزال كثير العمل) يتعب نفسه فيه، وهو مع ذلك (قليل الحظ) عديم الجدوى؛ فهذا ما يتعلق بالإسرار وما فيه من الآفات، (وأما جانب الإظهار فميل الطبع إليه من حيث إنه تطييب لقلب المعطي) في أخذه علانية، (واستحثاث له) أي: تحريك (على مثل فعله وإظهار عند غيره أنه) أي: الأخذ (من المبالغين في الشكر) على النعمة (حتى يرغبوا في إكرامه) ومواساته (وتفقده) بأموالهم، (وهذا داء دفين في الباطن) صعب المعالجة، (والشيطان لا يقدر على المتدين إلا بأن يروج عليه) ، ويزين (هذا الخبث في معرض السنة، ويقول: الشكر) على النعمة (من السنة) وقد أمرت به، (والإخفاء من الرياء) وقد نهيت عنه، (ويورد عليه المعاني التي ذكرناها) قبل ذلك في الإظهار (فيحمله على الإظهار) ويمنعه من الإسرار، (وقصده في الباطن ما ذكرناه) من ترغيب الناس إليه، (ومعيار ذلك ومحكه أن ينظر إلى ميل نفسه إلى الشكر؛ حيث لا ينتهي الخبر إلى المعطي ولا إلى من يرغب في عطائه) ، ويحتفل به (وبين يدي جماعة يكرهون إظهار العطية ويرغبون في إخفائها، وعادتهم أنهم لا يعطون إلا من يخفي) خبر العطية، (ولا يشكر) بلسانه، (فإن استوت هذه الأحوال عنده) دل على صحة قصده وإخلاص نيته فيه، ونفاذ مشاهدته بدوام نظره إلى المنعم الأول، (فليعلم أن باعثه هو إقامة السنة في الشكر والتحدث بالنعمة) الواصلة إليه من يد هذا المعطي، (وإلا فهو مغرور) بخدع الشيطان، (ثم إذا علم أن باعثه السنة في الشكر فلا ينبغي أن يغفل عن قضاء حق المعطي فينظر) وفي نسخة: فلينظر، (فإن كان هو ممن يحب الشكر) ويقتضيه منك على عطيته، (والنشر) بالجميل، (فينبغي أن يخفي) عطيته (ولا يشكر) ، وهو يدل على نقصان علم المعطي وقوة آفات نفسه، فترك الثناء على هذا والكتم من الأخذ أفضل؛ (لأن قضاء حقه لا ينصره على الظلم، وطلبه للشكر ظلم) فإن شكر له فأظهر عطاءه فقد ظلمه؛ لإعانته إياه على ظلم نفسه، وقد قويت آفات نفسه، (وإذا علم من حاله أنه لا يحب الشكر) والثناء (ولا يقصده، فعند ذلك يشكره) ويثني عليه (ويظهر صدقته) ويتحدث بها، ثم من الناس من إذا أظهر معروفه فسد قصده واعتورته الآفات من التزين والتصنع فمثل هذا لا يقبل منه ما أعلن به؛ [ ص: 182 ] لأنه يكون معينا له على معصيته، وهذا أيضا لا يصلح أن يثني عليه، فإن ذكر بمعروفه أو مدح به كان ذلك مفسدة له واغترار منه؛ لقوة نظره إلى نفسه ونقصان معرفته بربه، فمن مدح هذا فقد قتله، ومن ذكره بمعروفه فقد أعانه على شركه، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي مدح بين يديه: ضربتم عنقه) ولفظ القوت: مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ضربت عنقه. فقال العراقي: متفق عليه من حديث أبي بكر بلفظ: ويحك قطعت عنق صاحبك! وزاد الطبراني في رواية: والله (لو سمعها ما أفلح) أبدا، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، تكلم فيه، وله نحوه من حديث أبي موسى ا ه .

قلت: لفظ الطبراني في معجمه الكبير: أخيك، بدل صاحبك، وفيه بعد قوله: أبدا، إذا أثنى أحدكم على أخيه فليقل: إن فلانا ولا أزكي على الله أحدا، (مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يثني على قوم في وجوههم) ومن حيث يسمعون؛ (لثقته بيقينهم وعلمه بأن ذلك لا يضرهم، بل يزيد في رغبتهم في الخير، فقال لواحد) أقبل إليه: (إنه سيد أهل الوبر) ، كذا في القوت .

قال العراقي: رواه البغوي والطبراني وابن نافع في معاجمهم وابن حبان في الثقات في حديث قيس بن عاصم، المنفرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك. اهـ .

قلت: ترجمة المزي في تهذيب الكمال، فقال: وفي سنة تسع، وكان شريفا عاقلا جوادا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا سيد أهل الوبر، نزل البصرة، (وقال لآخر) ممن يسمع: (إذا جاءكم) ، وفي القوت: إذا أتاكم (كريم قوم فأكرموه) .

قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر ورواه أبو داود في المراسيل من حديث الشعبي مرسلا بسند صحيح، وقال: روي متصلا، وهو ضعيف، والحاكم نحوه من حديث معبد بن خالد الأنصاري، عن أبيه، وصحح إسناده. اهـ .

قلت: وحديث ابن عمر فيه محمد بن الصباح ومحمد بن عجلان، تكلم فيهما، وأخرجه البزار وابن خزيمة والطبراني في الكبير، وابن عدي والبيهقي عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه، ثم قال له ذلك. ورواه البزار أيضا من حديث أبي هريرة وابن عدي من حديث شهر عن معاذ بن جبل وأبي قتادة الأنصاري، والحاكم عن جابر بن عبد الله، والطبراني أيضا عن ابن عباس وعن عبد الله بن ضمرة البجلي، وابن عساكر رواه عن أنس، وعدي بن حاتم، ورواه الدولابي في الكنى، وابن عساكر أيضا عن ابن راشد عبد الرحمن بن عبيد، لفظ هؤلاء الثلاثة: إذا أتاكم شريف قوم، قال الذهبي في مختصر المدخل: طرقه كلها ضعيفة، وله شاهد مرسل. اهـ .

وحكم ابن الجوزي بوضعه، وقد تعقبه الحافظ العراقي وتلميذه الحافظ ابن حجر، وتلاهما الحافظ السيوطي بأنه ضعيف لا موضوع، وفي بعض رواياته: إذا أتاكم كريمة قوم فأكرموه. ذكره ابن الأثير، وقال: الهاء فيه للمبالغة، (وسمع) صلى الله عليه وسلم (كلام رجل) تكلم بكلام فصل (فأعجبه، فقال: إن من البيان لسحرا) .

قال العراقي: أخرجه البخاري من حديث ابن عمر. اهـ .

قلت: رواه البخاري في النكاح والطب، ورواه أيضا مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود في الأدب، والترمذي في البر، كلهم عن ابن عمر، ووهم في المشارق حيث عزاه إلى علي، فإن البخاري لم يخرجه عنه، وقد تقدم معنى الحديث في كتاب العلم، (وقال) صلى الله عليه وسلم: (إذا علم أحدكم من أخيه خيرا فليخبره؛ فإنه يزداد رغبة في الخير) .

قال العراقي: رواه الدارقطني في العلل من رواية ابن المسيب، عن أبي هريرة، وقال: لا يصح عن الزهري، وروي عن ابن المسيب مرسلا، (وقال) صلى الله عليه وسلم: (إذا مدح المؤمن ربا) أي: زاد (الإيمان في قلبه) .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث أسامة بن زيد بسند ضعيف اهـ .

قلت: وكذا رواه الحاكم، ولفظهما: إذا مدح المؤمن في وجهه ربا الإسلام في قلبه، والمراد بالمؤمن الكامل الذي عرف نفسه وأمن عليها من نحو كبر وعجب ورياء، بل يكون ذلك سببا لزيادته في العمل الصالح المؤدي لزيادة إيمانه، فأما من ليس بهذه الصفات فالمدح عليه من أعظم الآفات المفضية بإيمانه إلى الخلل والحرج، (وقال) سفيان (الثوري: من عرف نفسه لم يضره مدح الناس) له كذا في القوت، وهو إشارة لما ذكرناه في تفسير المؤمن الكامل [ ص: 183 ] (وقال) الثوري (أيضا ليوسف بن أسباط) الشيباني، من رجال الحلية من العباد الزهاد، وثقه يحيى، وقال أبو حاتم: لا يحتج به. تقدم ذكره في كتاب العلم (إذا أوليتك معروفا فكنت) أي: فإن كنت (أنا أسر به منك) أي: أكثر سرورا، (ورأيت ذلك نعمة من الله تعالى علي) وكنت أشد حبا منك، (فاشكر وإلا فلا تشكر) . نقله صاحب القوت، (فدقائق هذه المعاني ينبغي أن يلاحظها من يراعي قلبه) من السالكين المخلصين، (فإن أعمال الجوارح من إهمال) أي: ترك (هذه الدقائق) رأسا (ضحكة للشيطان وشماتة له) أي: يضحك عليه ويفرح به (بكثرة التعب وقلة النفع) والفائدة، (ومثل هذا العلم هو الذي) يقال فيه: (أن تعلم مسألة واحدة) على وجهها (أفضل من عبادة سنة) ، ومن ذلك قولهم: تفكر ساعة خير من عبادة سنة؛ (إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمر) ، فهو كالروح لها وبه قواها، (وبالجهل به) أي: بمداركه (تموت عبادة العمر) أي: تذهب عبادته هباء بلا نفع (وتتعطل، وعلى الجملة) من هذا التفصيل (فالأخذ من الملأ) علانية (والرد في السر أحسن المسالك وأسلمها) للنفس؛ لأنهم قالوا في التوحيد: إن الظاهر والباطن هو المعطي، فلا معنى للرد عليه في الظاهر (فلا ينبغي أن يدفع بالتزويقات) أي: التوجيهات المموهة (إلا أن تكمل المعرفة) فيصح القصد وتنفذ مشاهدته بدوام نظره إلى المنعم الأول؛ (بحيث يستوي) عنده (السر والعلانية) ، فهذا إن قبلت منه علانيته صلح، وإن أثنيت عليه بذلك جاز؛ لقوة معرفته وكمال عقله، وسبق نظره إلى مولاه فيما وفقه له ذلك، ويراه نعمة منه (وذلك هو الكبريت الأحمر) ، والإكسير الأكبر الذي المثقال منه يصبغ الجبال، ومثل هذا (يتحدث به) في الألسنة والكتب، (ولا يرى) فهو رابع الغول والعنقاء والخل الوفي، وبالله التوفيق .

وقد أشار النووي في آخر كتاب الزكاة من الروضة إلى هذا التفصيل نقلا عن المصنف، فقال: وذكر أيضا -يعني المصنف- اختلاف الناس في إخفاء أخذ الصدقة وإظهارها أيهما أفضل؟ وفي كل واحد فضيلة ومفسدة، ثم قال: على الجملة الأخذ في الملأ، وترك الأخذ في السر أحسن. اهـ .



ثم إن المصنف لخص هذا السياق الذي في الفصل بتمامه من كتاب القوت، وزاد عليه: وقد ذكر صاحب القوت في هذا التفصيل أربعة أنواع، وأنا ألخصه لك بالاختصار، قال: وفصل الخطاب عندي أنه يحتاج إلى تفصيل، فنقول: فرض كل عبد القيام بحكم حاله ليفضل بقيامه ويسلم في حاله، فعلى المعطي الإخفاء جهده، فإن أظهر ترك علم حاله فنقص بذلك، فكانت هذه آفة من آفات نفسه وبابا من دنياه، وعلى الآخذ أن يذكر وينشر، فإن كتم فقد ترك ماله والإخلاص في عمله ونقص، وكانت آفة من آفات نفسه، وبابا من دنياه، فإن كانت له نية في إخفاء العطاء لما يوجبه الوقت ويقتضيه السبب من أجل المعطي بخلاص عمله أو من أجل الحاضرين بصلاح قلوبهم وسكون نفوسهم ونفسه؛ فالأدب والمعاونة لأخيه على الفضل في إخفاء السبب لم يضره الكتم، فيكون إذ ذاك فاضلا فيما دبره بموافقة العلم .

وروينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلانا أعطيته دينارا فأثنى بذلك وشكر، فقال: لكن فلانا أعطيته ما بين الثلاثة إلى العشرة فما أثنى ولا شكر، أراد منه القيام بحكم حاله لعلمه أن في الشكر والثناء تحريضا على المعروف، وأنه خلق من أخلاق الربوبية أحبه الله عز وجل من نفسه، فيشكر للمنفقين صنعهم وهو الرزاق، وأحبه من أوليائه أن يشكروا للأواسط ويثنوا به عليهم، وأن يشهدوا فيه الأول .

النوع الثاني من التفصيل: أن على المعطي أن لا يحب أن يذكر معروفه ولا يشكر، فإن علمت من يقتضيك ذلك ويحبه منك، فهذا يدل على نقصان علمه، فترك الثناء على مثله أفضل، فإن شكر له وأظهر عطاءه فقد أعانه على ظلم نفسه وقوى آفاتها؛ إذ هو ظالم من حيث لا يعلم .

النوع الثالث من التفصيل: من استوى عنده السر والعلانية؛ فالثناء على مثله يزداد به رغبة في الخير، ويربو الإيمان في قلبه؛ لكمال معرفته وقوة إيمانه، وفيه قال بعض العارفين: يمدح الرجل على قدر عقله، وفيه قال الثوري ما تقدم من قوله .

النوع الرابع من التفصيل: من الناس من إذا أظهر معروفه فسد قصده بذلك، واعتورته [ ص: 184 ] الآفات، فهذا إن قبل منه ما أعلن به أعانه على معصية، وإن أثني عليه كانت مفسدة له في دينه؛ لنقصان معرفته بربه. تفصيل آخر: أن لله عز وجل في إظهار العطاء حكمة ونعمة ولطفا ورحمة، وقد يكون ذلك سببا للقدرة وطريقا إلى التأسي بالتحاض فينافس بعضهم بعضا، فيصير الإظهار مفتاحا لكثرة المعروف وبابا لأفعال العطاء، وهو داخل في الخبر المشهور: أمتي كالبنيان يشد بعضه بعضا؛ ولهذا جاء في الخبر: أن من الخيلاء ما يحبه الله عز وجل، فالخيلاء بالصدقة يحبه الله تعالى، يعني بذلك أن ينافس بعضهم بعضا فيه، ويدعو بعضهم بعضا إليه، فيظهر فعله لإخوانه ويظهر بحركته وإقدامه ما جنبوا عنه من الطاعات، فجملة ذلك أن المعطي حاله الإخفاء والآخذ حاله الإظهار، فمن خالف فارق حاله، وإن فرض المعطي أن يكره المدح والذكر، فمن علمت منه ذلك فعليك أن تثني عليه وتشكر، ومن علمت أنه يحب الإظهار والإشهار فحالك أن لا تعاونه على ظلمه لنفسه، وإن علمت أن إظهار العطاء انتشار لفعل المعروف والاقتداء أظهرت، وإن رأيت كتمه أقرب إلى صلاح النفوس لأجل الحسد أخفيته .

قال بعض الحكماء: من كان يريد لنفسه ما يريد فلا يثني ولا يشكر ولا يظهر. وهذا تفصيل ما أجمله الصادقون، وبالله التوفيق، اهـ. ملخصا .




الخدمات العلمية