الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد ذهب بعض العلماء إلى الاستدلال بهذا الحديث في المنع من الرحلة لزيارة المشاهد وقبور العلماء والصلحاء وما تبين لي أن الأمر كذلك بل الزيارة مأمور بها ، قال صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا " والحديث إنما ورد في المساجد وليس في معناها المشاهد لأن المساجد بعد المساجد الثلاثة متماثلة ولا بلد إلا وفيه مسجد فلا معنى للرحلة إلى مسجد آخر وأما المشاهد فلا تتساوى بل بركة زيارتها على قدر درجاتهم عند الله عز وجل نعم لو كان في موضع لا مسجد فيه فله أن يشد الرحال إلى موضع فيه مسجد وينتقل إليه بالكلية إن شاء ثم ليت شعري هل يمنع هذا القائل من شد الرحال إلى قبور الأنبياء عليهم السلام مثل إبراهيم وموسى ويحيى وغيرهم عليهم السلام فالمنع من ذلك في غاية الإحالة فإذا جوز هذا فقبور الأولياء والعلماء والصلحاء في معناها فلا يبعد أن يكون ذلك من أغراض الرحلة كما أن زيارة العلماء في الحياة من المقاصد هذا في الرحلة أما المقام فالأولى بالمريد أن يلازم مكانه إذا لم يكن قصده من السفر استفادة العلم مهما سلم له حاله في وطنه فإن لم يسلم فيطلب من المواضع ما هو أقرب إلى الخمول وأسلم للدين وأفرغ للقلب وأيسر للعبادة فهو أفضل المواضع له قال صلى الله عليه وسلم : " البلاد بلاد الله عز وجل والخلق عباده فأي موضع رأيت فيه رفقا فأقم واحمد الله تعالى .

" وفي الخبر " من بورك له في شيء فليلزمه ومن جعلت معيشته في شيء فلا ينتقل عنه حتى يتغير عليه "

وقال أبو نعيم رأيت سفيان الثوري وقد جعل جرابه على كتفه وأخذ نعليه بيده فقلت : إلى أين يا أبا عبد الله قال ؟ : إلى بلد أملأ فيه جرابي بدرهم .

وفي حكاية أخرى بلغني عن قرية فيها رخص أقيم فيها قال فقلت وتفعل هذا يا أبا عبد الله فقال ؟ : نعم ، إذا سمعت برخص في بلد فاقصده ، فإنه أسلم لدينك وأقل لهمك . وكان يقول : هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين ، فكيف بالمشهورين ؟ هذا زمان تنقل يتنقل الرجل من قرية إلى قرية يفر بدينه من الفتن .

ويحكى عنه أنه قال : والله ما أدري أي البلاد أسكن ؟ فقيل له : خراسان ؟ فقال : مذاهب مختلفة وآراء ، فاسدة قيل . : فالشام ؟ قال : يشار إليك بالأصابع . أراد الشهرة قيل : فالعراق ؟ قال : بلد الجبابرة قيل مكة : ؟ قال : مكة تذيب الكيس والبدن وقال له رجل غريب : عزمت على المجاورة بمكة فأوصني . قال : أوصيك بثلاث لا تصلين في الصف الأول ولا ؛ تصحبن قرشيا ، ولا تظهرن صدقة ، وإنما كره الصف الأول لأنه يشتهر فيفتقد إذا غاب فيختلط بعمله التزين والتصنع .

التالي السابق


(وقد ذهب بعض العلماء إلى الاستدلال بهذا الحديث في المنع عن الرحلة لزيارة المشاهد) الفاضلة (وقبور الصالحين) وحمل النهي على التحريم ، وعني بهذا البعض والد شيخه إمام الحرمين ، ووافقه القاضي حسين ، ومن المالكية القاضي عياض ، ومن الحنابلة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، وألفا في ذلك رسائل ، وقد رد عليه التقي السبكي في هذه المسألة بكتاب مستقل ذكر فيه الأحاديث التي وردت في إباحة شد الرحال لزيارة الأنبياء والصالحين ، وقد نقل النووي مقالة الجويني والقاضي حسين والقاضي عياض وقال : هو غلط .

ومعنى لا تشد : لا فضيلة في شد . وسبقه المصنف إلى ذلك فقال : (وما تبين لي أن الأمر كذلك) أي : ما ذكروه من حمل النهي على التحريم (بل الزيارة مأمور بها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا ") رواه مسلم من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وقد تقدم في قواعد العقائد (والحديث) المذكور في الباب (إنما ورد في المساجد) التي يصلى فيها (وليس في معناه المشاهد) أي : مشاهد الخير (لأن المساجد بعد المساجد الثلاثة) المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى (متماثلة) متساوية (ولا بلد إلا وفيه مسجد) معظم (فلا معنى للرحلة إلى مسجد آخر) مع وجود المسجد في بلده (وأما المشاهد فلا تتساوى) ولا تتماثل (بل بركة زيارتها على قدر درجاتهم عند الله تعالى أجل) أي نعم (لو كان) المريد (في موضع لا مسجد فيه فله أن يشد الرحل إلى موضع فيه مسجد ينتقل إليه بالكلية إن شاء الله) لأجل العبادة ومضاعفة الحسنات (ثم ليت شعري) أي : علمي (هل يمنع هذا القائل من شد الرحال إلى قبور الأنبياء ) عليهم السلام (مثل قبر إبراهيم ) في غار جرور (وموسى ) في الكثيب الأحمر (ويحيى) في دمشق أو حلب (وغيرهم) كقبر هود بحضرموت (صلوات الله عليهم) وسلامه وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم (والمنع من ذلك في غاية الإحالة) ونهاية الامتناع (وإذا جوز ذلك) مع التسليم (فقبور الأولياء والعلماء والصالحين في معناها) من غير مانع (فلا يبعد أن يكون ذلك من أغراض الرحلة) المندوب إليها (كما أن زيارة العلماء في الحياة من) جملة (المقاصد) المهمة (هذا) الذي مضى الكلام فيه (في الرحلة) للمريد من بلد إلى بلد ، (أما المقام) أي حكم الإقامة (فالأولى بالمريد أن يلازم مكانه إذا لم يكن قصده من السفر) والحركة (استفادة علم) لم يكن عنده من يستفيد منه أو استفادة حال في السلوك (مهما سلم له حاله في وطنه) فإنه أدعى لجمع حواسه [ ص: 287 ] في سلوكه ، وأصون من التشتيت وهذا هو مشرب السادة النقشبندية فإنهم يأمرون بذلك المريد لسلامة حاله (فإن لم يسلم) له حاله في وطنه لعذر أو مانع ظاهر (فليطلب) بحركته (من المواضع ما هو أقرب) له (إلى الخمول) وعدم الظهور (وأسلم للدين وأفرغ للقلب) من خطور الخواطر الردية فيه (وأيسر للعبادة) والتحصيل (له وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البلاد بلاد الله والخلق عباد الله فأي موضع رأيت فيه رفقا فأقم واحمد الله تعالى ") ولفظ القوت : وبعد المساجد الثلاثة فأي موضع صلح فيه قلبك وسلم لك دينك واستقام فيه حالك فهو أفضل المواضع لك وقد جاء في الخبر : "البلاد بلاد الله والخلق عباده فأي موضع رأيت فيه رفقا فأقم واحمد الله تعالى " وقال العراقي : رواه أحمد والطبراني من حديث الزبير بسند ضعيف . . أهـ .

قلت : رواه أحمد بلفظ : "فحيثما أصبت خيرا فأقم " رواه من طريق أبي يحيى مولى آل الزبير عن الزبير ، قال الهيتمي : في سنده من لم أعرفه . وتبعه السخاوي وغيره ، ومعنى هذا الحديث في قوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون وجرى إلى ما ذهب إليه المصنف هنا الزمخشري في الكشاف فقال : معنى الآية أنه إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ، ولم يتمش أمر دينه كما يجب ، فليهاجر لبلد آخر يقدر أنه فيه أسلم قلبا وأصح دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا . قال : وقد جربنا فلم نجد أعون على ذلك من مكة . . أهـ .

(وفي الخبر) المرفوع : ("من بورك له في شيء فليلزمه ") كذا في النسخ ، وفي بعضها : من رزق له ، وهي نسخة العراقي ، وعبارة القوت : "من خفر له " وهي بمعنى بورك ، قال العراقي : رواه ابن ماجه من حديث أنس بسند حسن . . أهـ .

قلت : وأخرجه من طريق الديلمي وغيره ، ورواه البيهقي كذلك لكن في سنده محمد بن عبد الله الأنصاري ، وهو ضعيف عن فروة بن يونس ، وقد ضعفه الأزدي ، عن هلال بن جبير ، وفيه جهالة ، وفي بعض روايات البيهقي : "من رزقه الله رزقا في شيء فليلزمه (ومن جعلت معيشته في شيء فلا ينتقل عنه حتى يتغير عليه ") .

قال العراقي : رواه ابن ماجه من حديث عائشة بسند فيه جهالة بلفظ : إذا سبب الله لأحدكم رزقا من وجه فلا يدعه حتى يتغير له أو يشكر له . . أهـ .

وأورد صاحب القوت الجملتين معا في حديث ، وتبعه المصنف كما ترى ، وهما حديثان ، لكن مخرجهما واحد (وقال أبو نعيم) الفضل بن دكين مولى آل طلحة ، روى عنه البخاري بلا واسطة ، والباقون بالواسطة : (رأيت سفيان) بن سعيد (الثوري قد جعل جرابه على كتفه وأخذ قلته) هكذا في النسخ ، ومثله في القوت ، وفي بعض النسخ : نعليه (بيده فقلت : إلى أين يا أبا عبد الله ؟ فقال : إلى بلد أملأ فيه جرابي بدرهم) هكذا نقله صاحب القوت وصاحب الحلية (وفي حكاية أخرى) ولفظ القوت وفي رواية أخرى أي من غير طريق أبي نعيم (بلغني أن قرية فيها رخص) أريد أن (أقيم بها قال) الراوي عنه (وتفعل هذا يا أبا عبد الله ؟ قال : نعم ، إذا سمعت بلدا فيه رخص فاقصده ، فإنه أسلم لدينك وأقل لهمك . وكان) يعني الثوري (يقول : هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين ، فكيف بالمشهورين ؟ هذا زمان ينتقل الرجل من قرية إلى قرية يفر بدينه من الفتن) كذا في القوت والحلية ، زاد في القوت : وقد كان الفقراء والمريدون يقصدون الأمصار للقاء العلماء والصالحين للنظر إليهم وللتبرك والتأدب بهم ، وكان العلماء ينتقلون في البلاد ليعلموا ويردوا الخلق إلى الله تعالى ، ويعرفوا الطريق إليه ، فإذا فقد العالمون وعدم المريدون فالزم موضعا ترى فيه أدنى سلامة دين ، وأقرب صلاح قلب ، وأيسر سكون نفس ، ولا تنزعج إلى غيره ، فإنك لا تأمن أن تقع في شر منه ، وتطلب المكان الأول فلا تقدر عليه . . أهـ .

وقوله : يفر بدينه من الفتن ، هو في حديث البخاري ، وقد عقد عليه باب "الفرار بدينه في الفتن من الإيمان " (ويحكى عنه) أي عن الثوري (أنه قال : والله ما أدري أي البلاد أسكن ؟ فقيل له : خراسان ؟ فقال : مذاهب مختلفة ، وآراء فاسدة . فقيل له : فالشام ؟ قال : يشار إليك بالأصابع . أراد) بذلك (الشهرة) فإن المشهور هكذا صفته (فقيل له : فالعراق ؟ قال : بلد الجبابرة) وبه قرن الشيطان (قيل : فمكة ؟ قال : مكة تذيب الكيس) أي لما فيها من الغلاء في أكثر الأوقات ؛ لأنها بواد غير ذي زرع (والبدن) أشار بذلك إلى المجاهدة في الطاعة والقيام بواجب العبادة .

[ ص: 288 ] هكذا نقله صاحب القوت وصاحب الحلية والزمخشري في ربيع الأبرار (وقال له) أي للثوري (رجل : قد عزمت على المجاورة بمكة فأوصني . قال : أوصيك بثلاث ؛ لا تصحبن قرشيا ، ولا تظهرن صدقة ، ولا تصلين في الصف الأول) . أورده صاحب القوت قال : (وإنما كره) له الصلاة في (الصف الأول من أجل الشهرة فيفتقد إذا غاب) فيعرف إذا واظب ، فيحب أن يرب الحال بلزوم الموضع (فيختلط بعمله التزين والتصنع) ويذهب الإخلاص . . أهـ .

وكذا الحال في إظهار الصدقة وصحبة القرشي ، فإن كلا منهما باعث للشهرة وعدم الراحة ، وزاد صاحب القوت فقال : وجاء رجل إلى سفيان بمكة فسأله فقال : أرسل معي رجل بمال فقال : ضعه في سدانة الكعبة . أو قال : في سدنة الكعبة ، فما ترى ؟ قال سفيان : قد جهل فيما أمرك به ، وإن الكعبة لغنية عن ذلك . قال : فما ترى ؟ قال : اصرفه إلى الفقراء والأرامل ، وإياك وبني فلان ، فإنهم سراق الحجاج .




الخدمات العلمية