الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما النوع الثاني فاستطاعة المعضوب بماله وهو أن يستأجر من يحج عنه بعد فراغ الأجير عن حجة الإسلام لنفسه ويكفي نفقة الذهاب بزاملة في هذا النوع والابن إذا عرض طاعته على الأب الزمن صار به مستطيعا ولو عرض ماله لم يصر به مستطيعا لأن الخدمة بالبدن فيها شرف للولد وبذل المال فيه منة على الوالد .

ومن استطاع لزمه الحج وله التأخير ولكنه فيه على خطر

التالي السابق


(وأما النوع الثاني فاستطاعة المعضوب بماله) وهو بالعين المهملة والضاد المعجمة الزمن الذي لا حراك به كأن الزمانة عضبته ، أي قطعته ومنعته الحركة ، وجوز الرافعي فيه إهمال الضاد من عصبته الزمانة أي حبسته ، اعلم أن الاستنابة في الحج قد تكون بطريق الجواز ، وقد تكون بطريق الوجوب ، وقد تكون بطريق الاستحباب .

أما جواز الاستنابة : فلا يخفى أن العبادات بعيدة عن قبول النيابة ، لكن احتمل في الحج أن يحج الشخص عن غيره إذا كان المحجوج عنه عجز عن الحج بنفسه ، إما بسبب الموت أو بكبر أو بزمانة أو مرض لا يرجى برؤه ، والمعتبر في الكبر أن لا يثبت على راحلة أصلا ، أو بمشقة ، فالمقطوع اليدين والرجلين إذا أمكنه الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة فلا تجوز النيابة عنه ، وكذا عن مرض يرجى زواله ، فإنه يتوقع مباشرته له ، وكذا من وجب عليه الحج ثم جن لم يكن للولي أن يستنيب عنه ؛ لأنه ربما يفيق فيحج عن نفسه ، وهذا كله في حجة الإسلام ، وفي معناها حجة النذر ، حكي ذلك من نصه ، ويلحق بهما القضاء ، وأما حجة التطوع فهل يجوز استنابة المعضوب فيها ؟ فيه قولان : أحدهما لا ؛ لبعد العبادات البدنية عن قبول النيابة ، وإنما جوزنا في الفرض للضرورة ، وأصحهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد نعم ؛ لأنه عبادة تدخل النيابة في فرضها ، فيدخل في نفلها ، فإن جوزنا الاستئجار للتطوع فللأجير الأجرة المسماة ، وإن لم نجوز وقع الحج عن الأجير ، ولا يستحق المسمى ، وفي أجرة المثل قولان مرويان عن الأم ، أحدهما : أنه لا يستحق أيضا لوقوع الحج عنه ، وصححه الخوارزمي في الكافي ، وأظهرهما عند المحاملي وغيره : أنه يستحقها ؛ لأنه دخل في العقد طامعا في الأجرة وتلفت منفعته عليه وإن لم ينتفع بها المستأجر ، فصار كما لو استأجر لحمل طعام مغصوب فحمل يستحق الأجرة .

وأما وجوب الاستنابة : فقد أشار إليه المصنف بقوله (وذلك بات) اعلم أن المعضوب تلزمه الاستنابة في الجملة ، ولا فرق بين أن يطرأ العضب بعد الوجوب ، وبين أن يبلغ معضوبا واجدا للمال ، وبه قال أحمد ، وعند مالك : لا استنابة على المعضوب بحال ؛ لأنه لا نيابة عن الحي عنده ، ولا حج على من لا يستطيعه بنفسه ، وعن أبي حنيفة أنه لا حج عن المعضوب ابتداء ، لكن لو طرأ العضب بعد الوجوب لم يسقط ، وعليه أن ينفق على من يحج إذا تقرر ذلك ، فلوجوب الاستنابة على المعضوب طريقان : أحدهما أن يجد مالا (يستأجر) به (من يحج عنه بعد فراغ الأجير من حجة الإسلام عن نفسه و) أن (يكفي نفقة الذهاب بزاملة في هذا النوع) والشرط أن يكون المال فاضلا عن نفقة العيال وكسوتهم يوم الاستئجار ، ولا يعتبر بعد فراغ الأجير من الحج إلى إيابه ، وهل تعتبر مدة الذهاب ، حكى صاحب التهذيب وجهين : [ ص: 296 ] أصحهما : أنه لا يعتبر ، بخلاف ما لو كان يحج بنفسه ، ثم إن وفى ما يجده بأجرة أجير راكب فذاك ، فإن لم يجد إلا أجرة ماش ففي لزوم الاستئجار وجهان : أصحهما : يلزم بخلاف ما لو كان يحج بنفسه لا يكلف المشي لما فيه من المشقة ، ولا مشقة عليه في المشي الذي يتحمله الأجير ، والثاني : ويحكى عن اختيار القفال أنه لا يلزم ، لأن الماشي على خطر ، وفي بذل المال في أجرته تغرير به ، ولو طلب الأجير أكثر من أجرة المثل لم يلزم الاستئجار ، فإن رضي بأقل منها لزمه ، وإن امتنع من الاستئجار فهل يستأجر عليه الحاكم ؟ فيه وجهان : أشبههما أنه لا يستأجر ، الطريق الثاني لوجوب الاستنابة على المعضوب إن لا يجد المال ولكن يجد من يحصل له الحج وفيه صور : إحداها : أن يبذل الأجنبي مالا ليستأجر به ، وفي لزوم قبوله وجهان حكاهما الحناطي وغيره ، أحدهما : يلزم لحصول الاستطاعة بما يبذله . وأصحهما : أنه لا يلزم ، وهو الذي اقتصر عليه المصنف في الوجيز ، قال : لما فيه من المنة الثقيلة .

الثانية : وإليه أشار المصنف بقوله : (والابن إذا عرض طاعته على الأب الزمن صار بذلك مستطيعا) وفي معنى الابن ابن الابن وابن البنت ، أي إذا بذل واحد من بنيه وبناته وأولادهم الطاعة فيلزم القبول والحج ، خلافا لأبي حنيفة وأحمد ، وإذا تقرر ذلك فاعلم أنه يشترط فيه أن لا يكون المطيع صرورة ولا معضوبا ، وأن يكون موثوقا بصدقه ، وإذا توسم أثر الطاعة فهل يلزمه الالتماس ؟ فيه وجهان : أحدهما لا ؛ لأن الظن قد يخطئ ، والثاني : وهو أظهرهما نعم إذا وثق بالإجابة بحصول الاستطاعة ، وهذا ما اعتمده أصحاب الشيخ أبي حامد وحكوه عن نص الشافعي ، ولو بذل المطيع الطاعة فلم يأذن المطاع فهل ينوب عنه الحاكم ؟ فيه وجهان : أصحهما لا ؛ لأن مبنى الحج على التراخي ، وإذا اجتمعت الشرائط ومات المطيع قبل أن يأذن فإن مضى وقت إمكان الحج استقر في ذمته ، وإلا فلا ، وإذا بذل الولد الطاعة ثم أراد الرجوع فإن كان بعد الإحرام ولم يجد إليه سبيلا ، وإن كان قبله رجع على أظهر الوجهين .

الثالثة : أن يبذل الأجنبي الطاعة ، ففي لزوم القبول وجهان : أصحهما وهو ظاهر نصه في المختصر : أنه يلزم لحصول الاستطاعة ، كما لو كان الباذل الولد ، والثاني : لا يلزم ؛ لأن الولد بضعة منه ، فنفسه كنفسه ، بخلاف غيره ، والأخ والأب في بذل الطاعة كالأجنبي ؛ لأن استخدامهما يثقل ، وفي بعض تعاليق الظاهرية حكاية وجه أن الأب كالابن ، كما أنهما يستويان في وجوب النفقة .

الرابعة : أشار إليه المصنف بقوله : (ولو عرض عليه ماله) : أي لو بذل الابن المال لوالده (لم يصر به مستطيعا) على أصح الوجهين ، وبه قال ابن سريج ؛ (لأن الخدمة بالبدن فيها شرف للولد وبذل المال فيه منة على الوالد) ألا ترى أن الإنسان يستنكف عن الاستعانة بمال الغير ولا يستنكف عن الاستعانة بيديه مع الاشتغال . والوجه الثاني : نعم كما لو بذل الطاعة ، والوجهان صادران من القائلين بعدم وجوب القبول من الأجنبي ، فإن أوجبناه فها هنا أولى ، وبذل الأب المال للابن كبذل الابن للأب ، أو كبذل الأجنبي ، ذكر الإمام فيه احتمالين : أظهرهما الأول (ومن استطاع) أي : مهما تمت الاستطاعة مع سائر الشرائط (لزمه الحج) على التراخي وهو في العمر كالصلاة بالإضافة إلى وقتها (وله التأخير) كما يجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت ، فكذا يجوز تأخير الحج إلى آخر العمر ، وبه قال محمد بن الحسن ، وقال مالك وأحمد والمزني : إنه على الفور . وبه قال أبو يوسف ، وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كما في المحيط والخانية وشرح المجموع ، وفي القنية أنه المختار ، وقال القدوري : وهو قول مشايخنا .

وقال صاحب الهداية : وعن أبي حنيفة ما يدل عليه ، وهو ما رواه محمد بن شجاع عنه أنه سئل عمن له مال يبلغه إلى بيت الله تعالى أيحج أم يتزوج ؟ فقال : بل يحج . ووجه الدلالة أنه أطلق الجواب بتقديم الحج على النكاح مع أنه يكون واجبا في بعض أحواله ، ولو لم يكن وجوبه على الفور لما أمر بما يفوت الواجب مع إمكان حصوله في وقت آخر ، لما أن المال غاد ورائح (ولكنه فيه على خطر) وهل يكون قضاء أو أداء ؟ تقدم الاختلاف فيه في أول هذا الكتاب .




الخدمات العلمية