الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بل ينبغي أن يلبس إزارا ورداء ، ونعلين ، فإن لم يجد نعلين فمكعبين فإن ، لم يجد إزارا فسراويل

التالي السابق


ثم أشار المصنف إلى ما ينبغي للمحرم لبسه ، فقال : (بل ينبغي أن يلبس إزارا ورداء ، ونعلين ، فإن لم يجد نعلين ، فكعبان ، وإن لم يجد إزارا فسراويل) لما في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم من الثياب ، فقال : لا يلبس القميص ، ولا السراويلات ، ولا العمائم ، ولا البرانس ، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين . وفي لفظ آخر : ولا ثوبا مسه ورس ، ولا زعفران . وزاد البخاري : ولا تنتقب المحرمة ، ولا تلبس القفازين ، ومن حديث ابن عباس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب يقول : السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين يعني المحرم ، وفي رواية : يخطب بعرفات ، وعند مسلم وحده عن جابر مرفوعا من لم يجد نعلين ، فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل ، وقد علم من ذلك أن لباس المحرم الإزار والرداء والنعلان ، فلو لم يجد الرداء لم يجز له لبس القميص بل يرتدي ، ويتوشح به ، ولو لم يجد الإزار ووجد السراويل نظر إن لم يتأت اتخاذ الإزار منه إما لصغر ، أو لفقد آلات الخياطة ، أو خوف التخلف عن القافلة ، فله لبسه ، ولا فدية عليه للحديث المذكور ، وقال أبو حنيفة ، ومالك : تجب الفدية ، وإن تأتى اتخاذ إزار منه ، فلبسه على هيئته ، فهل تلزمه الفدية ؟ فيه وجهان ؛ أحدهما نعم ، كما لو لبس الخف قبل أن يقطعه ، والثاني : لا لإطلاق الخبر وفي الخف أمر بالقطع على ما روي من حديث ابن عمر السابق ، وبالوجه الأول أجاب الإمام ، وتابعه المصنف حيث قال في الوجيز : ولو فتقه فلم يتأت إزار فلا فدية ، ولكن الأصح عند الأكثرين إنما هو الوجه الثاني .

وإذا لبس السراويل لفقد الإزار ثم وجده فعليه النزع ، فلو لم يفعل فعليه الفدية ، وإذا لم يجد نعلين لبس الكعب أو قطع الخف أسفل من الكعب ولبسه .

وهل يجوز لبس الخف المقطوع ، والكعب مع وجود النعلين فيه ، وجهان ؛ أحدهما نعم لشبهه بالنعل ، ألا ترى أنه لا يجوز المسح عليه ، وأصحهما لا لأن الإذن في الخبر مقيد بشرط أن لا يجد النعلين ، وعلى هذا لو لبس الخف المقطوع ، ثم وجد النعلين نزع الخف ولو لم يفعل افتدى ، وإذا جاز لبس الخف المقطوع لم يضر استتار ظهر القدم بما بقي منه لحاجة الاستمساك كما لا يضر استتاره بشراك النعل فإن قلت ما معنى عدم وجدان الإزار والنعل قلنا : المراد منه أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده في ذلك الموضع ، أو لعدم بذل المالك إياه ، أو لعجزه عن الثمن إن باعه ، أو الأجرة إن آجره ، ولو بيع بغبن ، أو نسيئة لم يلزم شراؤه ، ولو أعير منه ، وجب قبوله ، ولم يجب إن وهب ذكر هذه الصورة القاضي ابن كج .



(تنبيه) وقال عطاء يلبس الخفين ، ولا يقطعهما ؛ لأنه فساد ، والله لا يحب الفساد ، ومطلق حديث ابن عباس أن الخفين لمن لم يجد النعلين ، ولم يذكر قطعهما ، وبه قال أحمد ، والاعتبار في هذه المسألة أن القدم صفة إلهية وصف الحق بها نفسه ، وليس كمثله شيء ، فمن راعى التنزيه ، وأدركته الغيرة عن الحق في نزوله لما هو من وصف العبد المخلوق قال بلباس الخف غير المقطوع ؛ لأنه أعظم في الستر ومن راعى ظهور ما أظهره الحق لكون الحق أعرف بنفسه من عبده به ونزه نفسه في مقام آخر لم يرد أن يتحكم على الحق بفعله ، وقال الرجوع إليه أولى من الغيرة عليه ، فإن الحقيقة تعطي أن يغار له لا عليه ، وما شرع لباس الخفين إلا لمن لم يجد النعلين ، والنعل واق غير ساتر فقال يقطع الخفين ، وهو أولى ، وأما اعتبار من لبسهما مقطوعين مع وجود النعلين ، فاعلم أنه لما اجتمع الخف مع النعل في الوقاية من أذى العالم الأسفل وزاد الخف الوقاية من أذى العالم الأعلى من حيثما هما عالم لمشترك الدلالة ، والدلالة تقبل الشبه ، وهو الأذى الذي يتعلق بها ، ولهذا معرفة الله بطريق الخبر أعلى من المعرفة به من طريق النظر فإن طريق الخبر في معرفة الله إنما جاء بما هي عليه ذاته تعالى وطريق الدليل العقلي في معرفة الله تعالى إنما جاء بما لبست عليه ذاته تعالى ، فالمعرفة بالدليل العقلي سلبية ، وبالخبر ثبوتية ، وسلبية في ثبوت ، فلما كان الخبر أكشف لم يرجح جانب الستر فجعل النعل في الإحرام هو الأصل ؛ فإنه ما جاء اتخاذ النعل إلا للزينة ، والوقاية من الأذى الأرضي ، فإذا عدم عدل إلى [ ص: 312 ] الخف ، فإذا زال اسم الخف بالقطع ، ولم يلحق بدرجة النعل لستره ظاهر الرجل ، فهو لا خف ، ولا نعل ، فهو مسكوت عنه كمن مشى حافيا ، فإنه لا خلاف في صحة إحرامه ، وهو مسكوت عنه ، وكل ما سكت عنه الشرع فهو عافية ، وقد جاء الأمر بالقطع فالتحق بالمنطوق عليه بكذا وهو حكم زائد صحيح يعطي ما لا يعطي الإطلاق ، فتعين الأخذ به ؛ فإنه ما قطعهما إلا ليلحقهما بدرجة النعل غير أن فيه سترا على الرجل ففارق النعل ، ولم يستر الساق ففارق الخف ، فهو لا خف ، ولا نعل ، وهو قريب من الخف ، وقريب من النعل ، وجعلناه وقاية في الأعلى لوجود المسح على أعلى الخف ، فلولا اعتبار أذى في ذلك بوجه ما مسح أعلى الخف بالوضوء ؛ لأن إحداث الطهارة مؤذن بعلة وجودية تريد زوالها بإحداث تلك الطهارة ، والطهارة التي هي غير حادثة ما لها هذا الحكم ؛ فإنه طاهر الأصل لا عن تطهر ، فالإنسان في هذه المسألة إذا كان عارفا بحسب ما يقام فيه ، وما يكون مشهده ، فإن أعطاه شهوده أن يلبس مع وجود النعلين حذرا من أثر العلو في ظاهر قدمه عصم بلباسه قدمه من ذلك الأثر ، وإن كان عنده قوة إلهية يدفع بها ذلك الأثر قبل أن ينزل به لبس النعلين ، ولم يجز له لباس المقطوعين ؛ إذ كان الأصل في استعمال ذلك عدم النعلين فرجح الكشف ، والإعلان على الستر ، والأسرار في معرفة الله في الملأ الأعلى ، وهو علم التنزيه المشروع ، والمعقول فإن التنزيه له درجات في العقل ، فما دونه تنزيه بتشبيه ، وأعلاه تنزيه بغير تشبيه ، ولا سبيل لمخلوق إليه إلا برد العلم فيه إلى الله تعالى ، وبالله التوفيق .

وأما اعتبار الإزار ، والرداء ، فاعلم أنهما لما لم يكونا مخيطين لم يكونا مركبين ، فلهذا وصف الحق نفسه بهما لعدم التركيب إذ كان كل مركب في حكم الانفصال ، وهذا سبب قول القائل بأن صفات المعاني الإلهية ليست بزائدة مخافة التركيب لما في التركيب من النقص إذ لو فرض انفصال المتصل لم يكن محالا من وجه انفصاله وإنما يستحيل ذلك إذا استحال لاتصافه بالقدم ، والقديم يستحيل أن ينعدم ، فإذا فرضنا عدم صفة المعنى التي بوجودها يكون كمال الموصوف كما يفرض المحال ظهر نقص الموصوف وهو كامل بالذات ، فاجعل بالك ، فقال تعالى : إن الكبرياء رداؤه ، والعظمة إزاره ، فذكر ثوبين ليسا بمخيطين ، فالمحرم قد تلبس بصفة هي للحق كما تلبس الصائم بصفة هي للحق ، ولهذا جعل في قواعد الإسلام مجاورا له ، وإن كان في الحقيقة وجود العظمة ، والكبرياء إنما محلهما قلب العبد لا الكبير ، ولا العظيم ، فهما حال الإنسان لا صفتاه ، ولو اتصف بهما هلك ، وإذا كانا حالا له نجا وسعد ، فأول درجة هذه العبادة أن الحق المتلبس بها بربه في التنزيه عن الاتصاف بالتركيب فتلبس بالكمال في أول قدم فيها ، فالعبد إذا لم يقمه الله في مقام شهود العظمة التي هي الإزار ، وأقيم في مقام الإذلال لبس السراويل سترا للعورة التي هي محل السر الإلهي ، وستر الأذى ؛ لأنهما محل خروج الأذى أيضا فتأكد سترهما بما يناسبهما ، وهو السراويل ، والسراويل أشد في السترة للعورة من الإزار ، والقميص ، وغيره ؛ لأن الميل عن الاستقامة عيب ، فينبغي ستر العيب ، ولهذا سميت عورة لميلها فإن لها درجة السر في الإيجاد الإلهي ، وأنزلها الحق منزلة القلم الإلهي كما أنزل المرآة منزلة اللوح لرقم هذا القلم ، فلما مالت عن هذه المرتبة العظمى إلى أن تكون محلا لوجود الروائح الكريهة الخارجة منها من أذى الغائط ، والبول ، وجعلت نفسها طريقا لما تخرجه القوة الدافعة من البدن سميت عورة ، وسترت ؛ لأنه ميل إلى عيب ، فالتحقت بعالم الغيب ، وانحجبت عن عالم الشهادة فبالسراويل لا تشهد ، ولا تشهد ، فالسراويل أستر في حقها ولكن رجح الحق الإزار لأنه خلق العبد للتشبيه به لكونه خلقه على صورته ، والله أعلم .




الخدمات العلمية