التاسع في الجهر بالقراءة ولا شك في أنه لا بد أن يجهر به إلى حد يسمع نفسه إذ القراءة عبارة عن تقطيع الصوت بالحروف ولا بد من صوت فأقله ما يسمع نفسه فإن لم يسمع نفسه لم تصح صلاته .
فأما الجهر بحيث يسمع غيره فهو محبوب على وجه ومكروه ، على وجه آخر ، ويدل على استحباب الإسرار ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : كفضل صدقة السر على صدقة العلانية فضل قراءة السر على قراءة العلانية وفي لفظ آخر : وفي الخبر العام يفضل عمل السر على العلانية سبعين ضعفا وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر به كالمسر بالصدقة وفي الخبر : خير الرزق ما يكفي ، وخير الذكر الخفي لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة بين المغرب والعشاء .
وسمع سعيد بن المسيب ذات ليلة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز يجهر بالقراءة في صلاته ، وكان حسن الصوت فقال لغلامه اذهب إلى هذا المصلي فمره أن يخفض صوته ، فقال الغلام : إن المسجد ليس لنا وللرجل فيه نصيب فرفع سعيد صوته ، وقال يا : أيها المصلي إن كنت تريد الله عز وجل بصلاتك فاخفض صوتك وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا فسكت عمر بن عبد العزيز وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه ، وانصرف وهو يومئذ أمير المدينة .
ويدل على استحباب الجهر ما روي أن النبي وقد قال صلى الله عليه وسلم . صلى الله عليه وسلم سمع جماعة من أصحابه يجهرون في صلاة الليل فصوب ذلك
إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بالقراءة ، فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون قراءته ويصلون بصلاته .
ومر صلى الله عليه وسلم بثلاثة من أصحابه رضي الله عنهم مختلفي الأحوال فمر على رضي الله عنه وهو يخافت فسأله عن ذلك فقال : إن الذي أناجيه هو يسمعني ومر على أبي بكر رضي الله عنه وهو يجهر فسأله عن ذلك ، فقال أوقظ : الوسنان وأزجر الشيطان ومر على بلال وهو يقرأ آيا من هذه السورة وآيا من هذه السورة فسأله عن ذلك ، فقال : أخلط الطيب بالطيب ، فقال صلى الله عليه وسلم كلكم قد أحسن وأصاب . عمر
فالوجه في الجمع بين هذه الأحاديث أن الإسرار أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوش الوقت على مصل آخر فالجهر أفضل ; لأن العمل فيه أكثر ، ولأن فائدته أيضا تتعلق بغيره فالخير المتعدي ، أفضل من اللازم ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر فيه ، ويصرف إليه سمعه ولأنه يطرد النوم في رفع الصوت ، ولأنه يزيد في نشاطه للقراءة ، ويقلل من كسله ولأنه يرجو بجهره تيقظ نائم فيكون هو سبب إحيائه ولأنه قد يراه بطال غافل فينشط بسبب نشاطه ويشتاق إلى الخدمة فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل .
وإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر وبكثرة النيات تزكو أعمال الأبرار وتتضاعف أجورهم فإن ، كان في العمل الواحد عشر نيات كان فيه عشر أجور ولهذا نقول : وتأمل المصحف وحمله فيزيد الأجر بسببه وقد قيل الختمة في المصحف بسبع ; لأن النظر في المصحف أيضا عبادة . قراءة القرآن في المصاحف أفضل إذ يزيد في العمل النظر ،
وخرق رضي الله عنه مصحفين لكثرة قراءته منهما فكان كثير من الصحابة يقرؤون في المصاحف ، ويكرهون أن يخرج يوم ، ولم ينظروا في المصحف . عثمان
ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رضي الله عنه في السحر ، وبين يديه مصحف فقال له الشافعي شغلكم الفكر عن القرآن إني لأصلي العتمة وأضع المصحف بين يدي فما أطبقه حتى أصبح .