الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
العاشر : وهو الأدب الباطن وهو الأصل في الإجابة التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة فذلك هو السبب القريب في الإجابة [ ص: 44 ]

التالي السابق


( العاشر: وهو الأدب الباطن وهو الأصل) الأصيل ( في الإجابة) وهو ( التوبة) الناصحة ( ورد المظالم) إلى أهلها ( والإقبال على الله -عز وجل- بكنه الهمة) وخالصها ( فذلك هو السبب القريب في الإجابة) .

وقال الزركشي في الأزهية في آداب الدعاء:

أحدها: تقديم التوبة أمامه، وقد يكون إجابة الله المصر على ذنبه تعويضا عاجلا من مقامه، ودعاء التائب عبادة وحسنة، وأقل جزائها عشرة أمثالها، فإذا عجلت له الإجابة كان ما وراءها مدخرا له؛ ولذا جعله الحليمي والغزالي من الآداب، ثم نقل عن الغزالي عبارته هذه، ثم قال: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "في الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!".

وقال -صلى الله عليه وسلم- لسعد: "يا سعد أطب مطعمك تستجب دعوتك" وقيل: "الدعاء مفتاح الحاجة، وأكل الحلال أسنانه" وقد يؤخذ من هذا الحديث أن هذا شرط لا أدب. وقال الطرطوشي: من آدابه أكل الحلال، ولعله من شروطه. اهـ .



ولنذكر هنا بعض آداب للدعاء وشروط لم يذكرها المصنف:

فمن الآداب: أن يدعو وهو طاهر؛ لأنه عبادة، فكان كقراءة القرآن والأذان، ذكره الحليمي.

وفي الصحيحين عن أبي موسي: قال لي أبو عامر: "قل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستغفر لي، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بماء فتوضأ، ورفع يديه" الحديث .

وعن سعد بن أبي وقاص: "توضأ حين دعا لأهل المدينة" ورواه الواحدي في كتاب الدعوات، وتقدم حكم رفع اليد النجسة في الدعاء خارج الصلاة .

ومن الآداب: أن يقدم عليه صلاة، ذكره الحليمي، واستدل بأنه -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك حين دعا لأمته بقباء، وبقوله تعالى: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب أي: إذا فرغت من صلاة نفسك فاجهد نفسك بالدعاء .

قال الزركشي: ولهذا شرع في دعاء الاستسقاء تقديم الصلاة والصيام والصدقة.

ومن الآداب: أن يقدم أمامه صدقة، ذكره الحليمي أيضا، وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان يعجبه إذا أراد الرجل أن يدعو [ ص: 42 ] ربه أن يقدم صدقة، وذكر خبرا رواه الفريابي.

ومن الآداب: أن يقدم أمامه الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكره المصنف في ضمن الأدب التاسع إدراجا، وهو أدب مستقل، وقد أخرجه الترمذي من حديث النضر بن شميل، عن أبي قرة الأسدي، عن سعيد بن المسيب، عن عمر -رضي الله عنه- "أن الدعاء موقوف بين السماء والأرض فلا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم".

وأخرجه الحسن بن عرفة في جزئه مرفوعا، فقال: حدثنا الوليد بن بكير، عن سلام الخراز، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحسن، عن علي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من دعاء إلا وبينه وبين السماء والأرض حجاب حتى يصلى على محمد -صلى الله عليه وسلم- فإذا صلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- انخرق الحجاب، واستجيب الدعاء، وإذا لم يصل على النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستجب الدعاء".



ومن الآداب: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في وسط الدعاء وآخره؛ لأنه الذي علمنا الدعاء بأركانه وآدابه، فنقضي بعض حقه عند الدعاء اعتدادا بالنعمة، قاله الحليمي .

أما الصلاة عليه آخر الدعاء فقد ذكره المصنف ضمنا في الأدب التاسع من قول الداراني؛ حيث قال: ثم ليختم بالصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- والدليل عليه ما أخرجه الطبراني في معجمه، والبزار، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجعلوني كقدح الراكب، إن الراكب يملأ قدحه، فإذا فرغ وعلق تعاليقه فإن كان فيه ماء شرب حاجته، أو أراد الوضوء توضأ، وإلا أهراق القدح، فاجعلوني في وسط الدعاء، وفي أوله، وفي آخره".

قال أصحاب الغريب: معنى قوله: "لا تجعلوني كقدح الراكب" أي: لا تؤخروني في الذكر؛ لأن الراكب يعلق قدحه في آخرة رحله، ويجعله خلفه. وقال حسان بن ثابت -رضي الله عنه- يهجو أبا سفيان:


ولست كعباس ولا كابن أمه ولكن هجين ليس يورى له زند وكنت دعيا نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

ولعل المراد به الاقتصار في ذكره في الآخر .



واعلم أن الصلاة عند الدعاء مراتب ثلاثة:

إحداها: أن يصلي عليه قبل الدعاء، وبعد حمد الله، ويشهد له حديث فضالة السابق .

والثانية: أن يصلي عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره، ويشهد له حديث جابر المذكور آنفا .

والثالثة: أن يصلي عليه في أوله وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما، كما عليه عمل الناس، وهو يناسب ما نقله الغزالي عن الداراني.



ومن الآداب: أن يفتح دعاءه باسم من أسمائه تعالى المناسبة لمطلوبه، أو يختم به، وتأمل دعاء الأنبياء كذلك، قال سليمان -عليه السلام- في دعاءه: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب وقال الخليل وابنه -عليهما السلام-: وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم و: تقبل منا إنك أنت السميع العليم وقال أيوب -عليه السلام-: ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة دعاء ليلة القدر: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" وعلم الصديق دعاء الصلاة: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاعفر لي مغفرة من عندك؛ إنك أنت الغفور الرحيم".

وأما قول عيسى -عليه السلام-: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ولم يقل: "الغفور الرحيم" كما قال الخليل: ومن عصاني فإنك غفور رحيم لأنه في مقام: آت مغفرتك لهم عن عز وحكمة، فأخرجه مخرج التسليم؛ ولأن في ذكر الغفور تعريض السؤال بالمغفرة، فعدل عنه، أو كأنه قال: فالمغفرة لا تنقص من عزك، ولا تخرج عن حكمك .



واعلم أن للدعاء مراتب:

إحداها: أن تدعو الله بأسمائه وصفاته، والمناسب ذكر الصفة التي تقتضي المدعو، كما سبق .

الثانية: أن تدعو لحاجتك وفقرك ونحو ذلك، فتقول: أنا العبد الذليل الفقير البائس المستجير، ونحوه .

الثالثة: أن تسأل حاجتك، ولا تترك واحدة منها .

فالأول أكمل من الثاني، والثاني أكمل من الثالث، فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل، وهو عامة أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد جمع الثلاثة تعليمه الصديق -رضي الله عنه- قال: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا" وهذا حال السائل، ثم قال: "وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" وهذا حال المسؤول، ثم قال: "فاغفر لي" [ ص: 43 ] فذكر حاجته، وختم الدعاء باسم من أسمائه الحسنى بما يناسب المطلوب ويقتضيه .



ومن الآداب: أن يستعمل في كل مقام الدعاء المأثور فيه فهو أفضل من غيره؛ لتنصيص الشارع عليه، وتعليم الشرع خير من اختيار العبد؛ ولهذا قال أكثر أصحاب الشافعي: إن الدعاء المأثور في الطواف أفضل من الاشتغال بالقراءة، فيستعمل بعد التشهد دعاءه المأثور فيه، وبعد الصلاة كذلك، وفي الاستخارة كذلك، ويستعمل الأدعية الواردة عن الأنبياء، الصادرة منهم إذا كان مطلوبه ذلك، قال جعفر الصادق: عجبت لمن بلي بالضر كيف يذهل عنه أن يقول: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين والله تعالى يقول: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وعجبت لمن بلي بالغم كيف يذهل عنه أن يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين والله تعالى يقول: فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وعجبت لمن خاف شيئا كيف يذهل عنه أن يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل والله تعالى يقول: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء وعجبت لمن كويد في أمر كيف يذهل عنه أن يقول: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد والله تعالى يقول: فوقاه الله سيئات ما مكروا وعجبت لمن أنعم الله عليه نعمة خاف زوالها كيف يذهل عنه أن يقول: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله .

وهكذا سنه الحق سبحانه مع من صدق في التجائه إليه أن يمهد مقيله في ظل كفايته، فلا البلاء يمسه، ولا العناء يصيبه، وكذلك المواظبة على أدعية وقعت للأولياء في حالات استجيب لهم لا بأس بالمواظبة عليها لمن اتفقت له تلك الحالة؛ تفاؤلا بأن يناله ما نالهم .



* ( فصل) *:

وقد رأيت أن أسرد أدعية الأنبياء المحكية في القرآن المقرونة بالإجابة:

قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: وقل رب زدني علما ، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ، رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ، وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون .

وقال عن آدم -عليه السلام-: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .

وقال عن نوح -عليه السلام-: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات .

وقال عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع الآيات .

وقال عن إبراهيم -عليه السلام-: رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم .

وقال عن موسى -عليه السلام-: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ، رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير .

وقال عن سليمان -عليه السلام-: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي الآية .

وقال عن زكريا -عليه السلام-: رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ، رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء .

وقال عن يوسف -عليه السلام-: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين وعلى هذا النمط .

وجميع ما أجراه الله تعالى على ملك مقرب أو نبي مرسل أو صديق كقوله تعالى: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا الآية، ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا الآية، ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ، ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ، ربنا اصرف عنا عذاب جهنم الآيات، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا الآية .

فهذه جملة من الدعوات التي اختارها الله تعالى لخاصة عباده وصفوة أوليائه، والمصطفين من أنبيائه ورسله، وفيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .



[ ص: 44 ] * ( فصل) *:

فهذا الذي قد تقدم من ذكر الآداب قد يستدرك به على المصنف .

وذكر ابن الجوزي في الحصن آدابا أخر، منها:

الجثو على الركب، والتوسل بأنبيائه والصالحين، وأن يبدأ بنفسه أولا، وأن لا يخص نفسه إن كان إماما، وأن لا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم، ولا بأمر قد فرغ منه، ولا بمستحيل، ولا يتحجر واسعا .

قلت: وبعض ذلك يعد شرطا كما ستأتي الإشارة إليه .

وأما شروط الدعاء: فقد عدها الحليمي أحد عشر:

الأول: أن لا يكون المسؤول بالدعاء ممتنعا عقلا ولا عادة، كإحياء الموتى، ورؤية الله تعالى في الدنيا، وإنزال مائدة من السماء، أو ملك يخبر بأخبارها، وغير ذلك من الخوارق التي كانت للأنبياء، إلا أن يكون السائل نبيا؛ لأن بعض العادات إنما تكون من الله تعالى لتأييد من يدعو إلى دينه، ولك أن تبني ذلك على أن ما كان معجزة لنبي هل يجوز أن يكون كرامة لولي؟

قال: ويجوز أن يسأل العبد سؤالا مطلقا، أن يكشف عنه ضرورة وقعت له، فينقض الله له عادة، كما إذا حدث له في بادية جوع أو عطش أو برد شديد، وهو مأذون له في دخولها من جهة الشرع، فدعا الله بكشف ما أصابه، لا يضر مطلقا، وكان ذلك جائزا، وإن كان في إجابته إياه نقض العادة. وقد يفعل ذلك به من غير مسألته خيرا له؛ لتوكله وقوه إيمانه .

الثاني: أن لا يكون على السائل حرج فيما سأل، كسؤاله الخمر يشربها، أو امرأة يزني بها؛ لما تضمن سؤاله من إباحة الحرام؛ ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم" رواه مسلم.

فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم .

قال الحليمي: ويدخل في هذا أن يدعو بالشر على من لا يستحقه، أو على بهيمة. وقد جاء أن رجلا لعن بعيره في سفر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يصحبنا ملعون" فكأنه عاقبه على لعنه .

وقد جاء: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة عطاء فيستجاب لكم" أي: عقوبة لكم لا كرامة .

الثالث: أن لا يكون فيما سأل غرض فاسد، كسؤال المال والجاه والولد والعافية وطول العمر للتفاخر والتكاثر، والاستعانة بها على قضاء الشهوات .

الرابع: أن لا يكون الدعاء على وجه الاختبار لربه تعالى، بل يكون سؤالا محضا؛ إذ العبد ليس له أن يختبر ربه .

الخامس: أن لا يشغله الدعاء عن فريضة حاضرة فيفوتها، فيكون عاصيا .

السادس: أن حاجته إذا عظمت لم يسألها الله تعالى سؤال مستعظم لها في ذات الله، بل يسأله الصغيرة والكبيرة سؤالا واحدا، وهذا قد سبق للمصنف في ذكر الآداب .

وروى الترمذي عن أنس مرفوعا: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطعت" وينبغي أن يرى منة الله عليه في إجابته إلى صغير الحوائج وكبيرها .

السابع: حسن الظن بالله عند الدعاء وغلبة الإجابة على قلبه، وهذا أيضا قد ذكره المصنف في الآداب .

الثامن: أن لا يستعجل ولا يضجر من تأخير الإجابة، وهذا أيضا قد ذكره المصنف في الآداب .

التاسع: أن لا يقتصر على دعاء لغيره مع الجهل بمعناه، أو انصراف الهمة إلى لفظه؛ إذ الدعاء سؤال، وهذا غير سائل بل حاك لكلام غيره .

قال الحليمي: نعم، إذا كان دعاء حسنا أو كان صاحب الدعاء ممن يتبارك بكلامه فاختاره لذلك وأحضره قلبه، ووفاه إخلاص الطالب حقه، كان ذلك وإنشاء الدعاء من عنده سواء حينئذ .

قال الزركشي: وذكر بعضهم كراهة الدعاء بأمر لم يظهر له معناه، كما ذكر في الجامع الصغير أن أبا حنيفة كان يكره أن يدعو الرجل فيقول: "اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك" وإن جاء به الحديث؛ لأنه ليس ينكشف معناه لكل أحد .

قال الزركشي: وهذا جاء في حديث أخرجه البيهقي في الدعوات الكبير، عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء في السجود: "اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم، وكلماتك التامة" ثم سل حاجتك، لكنه ذكره ابن الجوزي في الموضوعات .

وقال ابن الأثير في النهاية: أي: بالخصال التي استحق بها العرش العز، أو بمواضع انعقادها منه. وحقيقة معناه: بعز عرشك. قال: وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء. اهـ .

وذكر الحكيم الترمذي في مناسكه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى العامة عند زيارة البيت بقوله: "حينا ربنا بالسلام" قال: ويحتمل هذا النهي لمن لم ينكشف له معناه، فأما من [ ص: 45 ] كشف له فهو غير داخل في هذا النهي، كما كانت الصحابة يدعون به .

العاشر: أن يصلح لسانه إذا دعا، ويحترز عما يعد إساءة في المخاطبات؛ لوجوب تعظيم الله تعالى على عبده في كل حال، وهو في حال السؤال أوجب، فإذا أراد غشيان النسيان فلا يصرح، بل يقول: اللهم متعني بأعضائي وجوارحي، أو طاعة امرأته فليقل: اللهم أصلح لي زوجتي .

وظاهر كلام الحليمي أن تجنب اللحن من الشروط، فلا يدعو بالجزم مثلا فيما الصواب فيه الرفع؛ لانقلاب المعنى، وهو ظاهر كلام الخطابي، فإنه قال فيما يجب أن يراعى في الأدعية: الإعراب الذي من عماد الكلام، وبه يستقيم المعنى، وربما انقلب المعنى باللحن .

وقد قال المازني لبعض تلامذته: عليك بالنحو؛ فإن بني إسرائيل كفرت بحرف ثقيل خففوه، قال تعالى لعيسى ابن مريم: "إني ولدتك" فقالوا بالتخفيف، فكفروا .

وأنشد بعضهم:


ينادي ربه باللحن ليت لذاك إذا دعاه فلا يجيب

وعن صاحب التبصرة: من الآداب: أن يكون الدعاء صحيح اللفظ؛ لأنه يتضمن مواجهة الحق بالخطاب، قال: وقد جاء في الحديث" لا يقبل الله دعاء ملحونا". وقال ابن الصلاح في فتاويه: "الدعاء الملحون ممن لا يستطيع غيره لا يقدح في الدعاء ويعذر فيه" .

الحادي عشر: أن يدعو الله بأسمائه الحسنى، ولا يدعو بما لا يخلص ثناء وإن كان حقا، قال الله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وفي الحديث: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" ولا ينبغي أن يقال: يا خالق الحيات والعقارب؛ لأنها جبارة مؤذية، فالدعاء بها كالدعاء بقوله: يا ضار .

وجعل الخطابي من شروطه: إخلاص النية، وإظهار الفقر والمسكنة والتواضع والخشوع، وأن يكون على طهارة، مستقبل القبلة، وأن يقدم الثناء على الله، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام دعائه، وذكر غير هذه من الآداب .

ولكن جعل غيره من الشروط: بأن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله عز وجل، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، والله أعلم .




الخدمات العلمية