الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال بعضهم : كنت أكتب الحديث وأصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيه ولا أسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي أما تتم الصلاة علي في كتابك ؟! فما كتبت بعد ذلك إلا صليت وسلمت عليه .

وروي عن أبي الحسن قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : يا رسول الله بم جوزي الشافعي عنك حيث يقول في كتابه الرسالة وصلى الله على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ؟ فقال صلى الله عليه وسلم جوزي : عني أنه لا يوقف للحساب .

"

التالي السابق


ولما فرغ المصنف -رحمه الله تعالى- من ذكر فضله -صلى الله عليه وسلم- رجع إلى بيان فضل من صلى عليه في كتاب له، فقال: ( قال بعضهم: كنت أكتب الحديث وأصلي على النبي صلى الله عليه سلم ولا أسلم) أي: كان يكتب: صلى الله عليه فقط ( فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فقال) لي: ( أما تتم الصلاة علي في كتابك؟!) أي: فعاتبني على ترك السلام في الصلاة عليه ( فما كتبت بعد ذلك) اسمه الشريف، أو وصفه، أو خلقا من أخلاقه ( إلا صليت وسلمت) أي: جمعت بينهما في الكتابة، فليحذر الكاتب من ذلك .

ومنهم من يشير إلى هذه الجملة بالصاد المقطوعة، وليس بمحمود، ومنهم من يكتب هكذا "صلعم" يشير به إلى الصلاة والسلام، وهو أشد منعا، وقد رأيت ذلك كثيرا في كتب العجم، والأفضل فيه ما ذكرت، أو يقول: عليه الصلاة والسلام، أو يقتصر على قوله: عليه السلام .

ثم رأيت في القول البديع للحافظ السخاوي قال: وأما الصلاة عليه عند كتابة اسمه -صلى الله عليه وسلم- وما فيه من الثواب، وذم من أغفله: فاعلم أنه كما تصلي عليه بلسانك فكذلك حظ الصلاة عليه ببنانك، مهما كتبت اسمه الشريف في كتاب فإن لك به أعظم الثواب، وهذه فضيلة يفوز بها تباع الآثار، ورواة الأخبار، وحملة السنة، فيا لها من منة! .

وقد استحب العلماء أن يكرر الكاتب الصلاة [ ص: 55 ] على النبي -صلى الله عليه وسلم- كلما كتبه، قال ابن الصلاح: ينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكراره؛ فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظا عظيما، وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء ينشئه لا كلام يرويه؛ فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه، نحو: عز وجل، وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك .

قال: ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: من أن يكتبها منقوصة صورة، رامزا إليها بحرفين أو نحو ذلك، يعني كما يفعله الكسالى والجهلة وعوام الطلبة، فيكتبون صورة "صلعم" بدلا من صلى الله عليه وسلم .

والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى، بأن لا يكتب فيها: وسلم، وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين .

ثم قال الحافظ السخاوي: وروي عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم القيامة يجيء أصحاب الحديث ومعهم المحابر، فيقول الله لهم: أنتم أصحاب الحديث طالما كنتم تكتبون الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- انطلقوا إلى الجنة" أخرجه الطبراني عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس. وأخرجه ابن بشكوال من طريقه. ونقل عن طاهر بن أحمد النيسابوري قال: ما أعلم حدث به غير الطبراني.

قال السخاوي: وقد أخرجه الخطيب من طريق محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، عن الطبراني بسنده، وقال الخطيب: إنه موضوع، والحمل فيه على الرقي .

وقد رواه أبو المحاسن الروياني في فوائده من طريقه أيضا عن الطبراني، لكن قال: عن معمر، عن قتادة، عن أنس.

ولم ينفرد به الطبراني، بل هو في مسند الفردوس من غير طريقه، ولفظه: "إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر، فيأمر الله جبريل -عليه السلام- أن يأتيهم فيسألهم: من هم؟ فيقولون: نحن أصحاب الحديث، فيقول الله لهم: ادخلوا الجنة فقد طالما كنتم تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم".

وأخرجه النميري باللفظ الأول، وعن سفيان الثوري قال: "لو لم يكن لصاحب الحديث فائدة إلا الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه يصلى عليه ما دام في ذلك الكتاب: صلى الله عليه وسلم" أخرجه الخطيب وابن بشكوال.

وعند الخطيب أيضا ومن طريقه ابن بشكوال عن سفيان بن عيينة قال: حدثنا خلف صاحب الحلقان قال: "كان لي صديق يطلب الحديث، فمات، فرأيته في المنام وعليه ثياب خضر جدد، يجول فيها، فقلت له: ألست كنت تطلب معي الحديث، فما هذا الذي أرى؟ فقال: كنت أكتب معكم الحديث فلا يمر بي حديث فيه ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا كتبت في أسفله: صلى الله عليه وسلم، فكافأني بهذا الذي ترى على: صلى الله عليه وسلم".

وروى النميري، عن سفيان بن عيينة أيضا قال: "كان لي أخ مؤاخ لي، فمات، فرأيته في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: كنت أكتب الحديث، فإذا جاء ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- كتبت: صلى الله عليه وسلم، أبتغي بذلك الثواب، فغفر لي بذلك" .

وعن أبي الحسن الميموني قال: "رأيت الشيخ أبا علي الحسن بن عيينة في المنام بعد موته، وكان على أصابع يديه شيء مكتوب بلون الذهب، أو بلون الزعفران، فسألته عن ذلك، فقلت: يا أستاذ أرى على أصبعك شيئا مليحا مكتوبا، ما هو؟ قال: يا بني هذا لكتبي: صلى الله عليه وسلم، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أبو القاسم التميمي في ترغيبه .

قلت: وروى الحافظ السلفي في فوائده بسنده إلى أبي عبد الله أحمد بن عطاء الروذباري يقول: سمعت أبا صالح عبد الله بن صالح الصوفي يقول: "رؤي بعض أصحاب الحديث في المنام، فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، فقيل له: بأي شيء؟ فقال: بصلاتي في كتبي على رسول الله: صلى الله عليه وسلم".

( وروي عن أبي الحسين الشافعي) رحمه الله تعالى، وفي نسخة: أبي الحسن ( قال: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقلت: يا رسول الله بما جزي) محمد بن إدريس ( الشافعي عنك حين يقول في كتابة الرسالة) وهي التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي ( وصلى الله على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: جزي عني أنه لا يوقف للحساب") .

قال ابن مسدي الحافظ: [ ص: 56 ] في آخر الجزء الثاني من مسلسلاته: سمعت أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن أبي زيد التلمساني وأبا علي الحسن بن الناصر الهروي يقول كل منهما: سمعت أبا عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد الهمداني يقول: سمعت أبا بكر هبة الله بن الفرج الشروطي يقول: سمعت أبا القاسم بن أبي سعد الحافظ يقول: سمعت أبا مسلم غالب بن علي الرازي يقول: سمعت أبا الحسين يحيى بن الحسين المطلبي بمدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: سمعت ابن بنان الأصبهاني يقول: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فقلت: يا رسول الله محمد بن إدريس الشافعي، ابن عمك، هل خصصته بشيء؟ قال: نعم، سألت الله -عز وجل- أن لا يحاسبه، فقلت: بم يا رسول الله؟ قال: لأنه كان يصلي علي صلاة لم يصل علي أحد من قبله مثله، فقلت: وما هذه الصلاة يا رسول الله؟ قال: كان يقول: اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون، وصل على محمد كلما غفل عنه الغافلون".

قال: وقد روي معنى هذه الحكاية عن المزني صاحب الشافعي، كما سمعت يوسف بن محمد الصوفي يقول: سمعت أبا طاهر السلفي الحافظ يقول، وساق سنده إلى المزني، قال: "رأيت الشافعي في المنام بعد موته، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بصلاة صليتها على النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتاب الرسالة، وهي: اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون" .

قال: وتروى هذه القصة بهذه الرؤيا لعبد الله بن عبد الحكم، كما أخبرنا أبو الخطاب بن واجب، أخبرنا أبو بكر بن أبي ليلى، أخبرنا أبو علي الصدفي، أخبرنا أبو عبد الله بن أبي نصر الحميدي، أخبرنا أبو القاسم الصيرفي، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: قال عبد الله بن الحكم: "رأيت الشافعي في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: رحمني وغفر لي وزففت إلى الجنة كما تزف العروس، ونثر علي كما ينثر على العروس، فقلت: بما بلغت هذه الحال؟ فقال لي قائل: بقولك في كتاب الرسالة: وصلى الله على محمد عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل عنه الغافلون، قال: فلما أصبحت نظرت الرسالة، فرأيت الأمر كما رأيته" .




الخدمات العلمية