الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره وإنما المقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فيما أمر به وقاله وإنما يقلد الصحابة رضي الله عنهم من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

ثم إذا قلد صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في تلقي أقواله ، وأفعاله بالقبول فينبغي أن يكون حريصا على فهم أسراره فإن المقلد إنما يفعل الفعل ، لأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم فعله وفعله لا ، بد وأن يكون لسر فيه فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال ، والأقوال فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم ولا يكون عالما ولذلك كان يقال : فلان من أوعية العلم فلا يسمى عالما إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار .

ومن كشف عن قلبه الغطاء واستنار بنور الهداية صار في نفسه متبوعا مقلدا فلا ينبغي أن يقلد غيره ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالفهما في الفقه والقراءة جميعا .

وقال بعض السلف : ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه على الرأس والعين ، وما جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم فنأخذ منه ونترك ، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال

التالي السابق


(ومنها) أي ومن العلامات الفارقة بين علماء الدنيا والآخرة (أن يكون اعتماده في) أخد (العلوم) وتقليها (على بصيرته) التي ترى حقائق الأشياء وبواطنها، (وإدراكه) أي معرفته وتحققه، (بضياء قلبه) المنور بنور القدس (لا على الصحف) جمع صحيفة (والكتب) جمع كتاب أي لا يكون عمدة أخه في العلوم من الأوراق المكتئبة، وإنما يكون اعتماده على ما أدركه بقوة قلبه، ونوره مما قبله بصفائه، وظهر في مرآته فإن هذا هو النافع له في علوم الأعمال الموصلة إلى درجات الآخرة، (ولا) يكون اعتماده أيضا، (على تقليد ما يسمعه من غيره) ويروونه، (وإنما المقلد) الذي أمرنا باتباعه (صاحب الشرع صلوات الله عليه) وسلامه لا غير، (فيما أمر به وقاله) أي في الأوامر والنواهي، (وإنما يقلد الصحابة) رضي الله عنهم، (من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم) أي: تلقوا ذلك الفعل بمشاهدة منه صلى الله عليه وسلم، فهم وسائط في إيصال التلقي إلينا في المأمورات والمنهيات، (ثم إذا قلد صاحب الشرع) صلى الله عليه وسلم (من تلقي أقواله، وأفعاله بالقبول) وأجمع نفسه على ذلك فليبحث عن الأخبار الصحيحة، الدالة على تلك الأقوال والأفعال من طرق صحيحة، أمنت من الكذابين والوضاعين، ثم من معرفة الناسخ من ذلك من منسوخه، فإذا تمت له هذه النعمة (فينبغي أن يكون حريصا) متشوفا (على فهم أسراره) ولطائفه، ونكاته ودقائقه، (فإن المقلد) بكسر اللام (إنما يفعل الفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله) وإنما ينتهي عن منهي; لأنه صلى الله عليه وسلم، نهى عنه، (وكلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فعله لا بد أن يكون لسر فيه) خفي عن المدرك، (فينبغي أن يكون شديد البحث) والتطلب (عن أسرار الأعمال، والأقوال) ليكون اتباعه كاملا ولتحصيل الأجور كافلا، (فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال) ، ويكتب في الصحف، (كان وعاء للعلم) ، أي ظرفا حافظا له، (ولم يكن عالما) حقيقة، (ولذلك كان يقال: فلان من أوعية العلم ولا يسمى عالما) هذا قول الزهري كما سيأتي قريبا (إذ كان من شأنه الحفظ) والجمع فقط (من غير اطلاع على الأسرار والحكم) قال صاحب القوت: ولم يكن العالم عند العلماء من كان عالما بعلم غيره ولا حافظا لفقه سواء كان هذا اسمه واعيا وراية وناقلا وكان أبو حازم الزاهد يقول: "ذهب العلماء وبقيت علوم في أوعية سوء"، وكان الزهري يقول: "كان فلان وعاء للعلم، وحدثني فلان وكان من أوعية العلم"، ولا يقول: وكان عالما، وكذلك جاء الخبر:رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وكانوا يقولون: [ ص: 432 ] حماد الراوية يعنون أنه كان راويا اهـ .

قلت: أبو حازم هو سلمة بن دينار الأعرج، من كبار التابعين، أخرج أبو نعيم من رواية يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، قال: حدثنا زمعة بن صالح، قال: قال الزهري لسليمان بن هشام: ألا تسأل أبا حازم، ما قال في العلماء، قال: ما عسيت أن أقول في العلماء إلا خيرا، إني أدركت العلماء، وقد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأى ذلك هذا وأصحابه تعلموا العلم، فلم يستغنوا به، واستغنى أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأوا ذلك قذفوا بعلمهم إلى أهل الدنيا، ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم شيئا، إن هذا وأصحابه ليسوا علماء، إنما هم رواة، وأما قول الزهري، فأخرج أبو نعيم أيضا من رواية إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت سفيان يقول: كنت أسمع الزهري يقول: حدثني فلان، وكان من أوعية العلم، ولا يقول: كان عالما، (ومن) تأدب بآداب الله وخالط أهل المعرفة، (كشف عن قلبه الغطاء) ، أي الحجاب، (ولاستنار بنور الهداية) ، واليقين، و ( صار في نفسه متبوعا مقلدا فلا ينبغي أن يقلد غيره) ; لأن الفقيه في العلماء هو الفقيه بفقه علمه، وقلبه لا بحديث سواه، ومثل العالم بعلم غيره، مثل الواصف لأحوال الصالحين العارف بمقامات الصديقين، ولا حال له ولا مقام فليس يعود عليه من وصفه إلا الحجة بالعلم، والكلام، وسبق العلماء بالله في المحجة بالأعمال والمقام، فمثله كما قال تعالى: ولكم الويل مما تصفون ، وكقوله: كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا لا يرجع إلى بصيرة في طريقه بما اشتبه عليه من ظلمات الشبه، مما اختلف العلماء فيه، ولا يتحقق بوجد منه يجده عن حال ألبسها بوجده، وإنما هو واجد بتواجد غيره، فغيره هو الواجد وشاهد على شهادة سواه، فالسوي هو الشاهد، وقد كان الحسن يقول: إن الله لا يعبأ بصاحب رواية، إنما يعبأ بذي فهم ودراية، وقال أيضا: من لم يكن له عقل يسوسه لم ينفه كثرة رواية الحديث، (ولذلك قال ابن عباس) رضي الله عنهما: (ما من أحد إلا ويؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أورده صاحب القوت بلفظ: ليس أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك، والباقي سواء، وقال العراقي: رواه الطبراني في الكبير من رواية مالك بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس رفعه، فساقه بلفظ القوت: وإسناده حسن، (وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه) هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان الأنصاري النجاري، أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة المدني، أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الشعبي، وابن سيرين: غلب زيد على اثنين: الفرائض والقرآن، وكان من أصحاب الفتوى من الصحابة إليه انتهى علمهم، وقال سعيد بن المسيب: لما دلي زيد في قبره، قال ابن عباس: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم، فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير، ووفاته سنة خمس وأربعين وهو ابن ست وخمسين وقيل غير ذلك .

(وقرأ على أبي بن كعب) القرآن هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد الأنصاري، النجاري المدني، أبو المنذر، ويقال: أبو الفضل سيد الأقران واحد ممن جمع القرآن، توفي في خلافة عثمان على الصحيح، (ثم خالفهما) فخالف زيدا (في الفقه) أي أفتى في بعض المسائل بخلاف ما أفتى به زيد، (و) خالف أبيا (في القراءة) أي في بعض الوجوه، (وقال بعض) الفقهاء من (السلف: ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه على الرأس والعين، وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ ونترك، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال) قالوا: ونقول: هكذا أورده صاحب القوت، وهذا القول قد عزي إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، قال صاحب القوت: واعلم أن العبد إذا كاشفه الله تعالى بالمعرفة وعلم اليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء، وكذلك كان المتقدمون إذا أقيموا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم لمزيد اليقين والإفهام، ثم أورد قول ابن عباس، وقول بعض السلف المتقدم، ذكرهما قال: ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد، ويقولون: لا ينبغي لرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف العلماء، أي فيختار منها على علمه الأحوط للدين، والأقوى باليقين، فلو كانوا لا يستحسنون أن يفتي العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف، ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه، ومتى قيل: إن العبد يسأل غدا فيقال: ما عملت [ ص: 433 ] فيما علمت، ولا يقال له: فيما علم غيرك، وهذا العالم الذي هو من أهل الاستنباط والاستدلال من الكتاب والسنة، فأما الجاهل والعامي الغفل فله أن يقلد العلماء، ولعالم العموم أيضا أن يقلد عالم خصوص وللعالم بالعلم الظاهر أن يقلد من فوقه، ممن حمل عن علم باطن من القلوب اهـ .




الخدمات العلمية