الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور وإن اتفق عليها الجمهور فلا يغرنه إطباق الخلق على ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم وليكن حريصا على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم وما كان فيه أكثر همهم أكان في التدريس والتصنيف والمناظرة والقضاء والولاية وتولى الأوقاف والوصايا وأكل مال الأيتام ومخالطة السلاطين ومجاملتهم في العشرة أم كان في الخوف والحزن والتفكر المجاهدة ومراقبة الظاهر والباطن واجتناب دقيق الإثم وجليله ، والحرص على إدراك خفايا شهوات النفوس ومكايد الشيطان إلى غير ذلك من علوم الباطن واعلم تحقيقا أنأعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق السلف فمنهم أخذ الدين .

ولذلك قال علي رضي الله عنه : خيرنا أتبعنا لهذا الدين لما قيل له خالفت فلانا فلا ينبغي أن يكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الناس رأوا رأيا فيما هم فيه لميل طباعهم إليه ولم تسمح نفوسهم بالاعتراف بأن ذلك سبب الحرمان من الجنة فادعوا أنه لا سبيل إلى الجنة سواه .

ولذلك قال الحسن محدثان أحدثا في الإسلام ; رجل ذو رأي سيئ زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه ومترف يعبد الدنيا لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار وإن رجلا أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعوه إلى دنياه ، وصاحب هوى يدعوه إلى هواه ، وقد عصمه الله تعالى منهما يحن إلى السلف الصالح يسأل عن أفعالهم ويقتفي آثارهم متعرض لأجر عظيم فكذلك كونوا .

وقد روي عن ابن مسعود موقوفا ومسندا أنه قال إنما هما اثنان الكلام والهدي فأحسن الكلام كلام الله تعالى وأحسن الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا : وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم ألا كل ما هو آت قريب ألا إن البعيد ما ليس بآت وفي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وأنفق من مال اكتسبه ، من غير معصية ، وخالط أهل الفقه والحكم وجانب أهل الزلل والمعصية ، طوبى لمن ذل في نفسه وحسنت خليقته ، وصلحت سريرته ، وعزل عن الناس شره ، طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، ووسعته السنة ، ولم يعدها إلى بدعة .

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل وقال أنتم في زمان خيركم فيه المسارع في الأمور وسيأتي بعدكم زمان يكون خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات .

وقد صدق فمن لم يتوقف في هذا الزمان ووافق الجماهير فيما هم عليه وخاض فيما خاضوا فيه هلك كما هلكوا .

وقال حذيفة رضي الله عنه أعجب من هذا أن معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى ، وأن منكركم اليوم معروف زمان قد أتى ، وإنكم لا تزالون بخير ما عرفتم الحق ، وكان العالم فيكم غير مستخف به .

ولقد صدق فإن أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة رضي الله عنهم إذ من غرر المعروفات في زماننا تزيين المساجد وتنجيدها وإنفاق الأموال العظيمة في دقائق عماراتها وفرش البسط الرفيعة فيها ولقد كان يعد فرش البواري في المسجد بدعة ، وقيل : إنه من محدثات الحجاج .

فقد كان الأولون قلما يجعلون بينهم وبين التراب حاجزا

التالي السابق


(ومنها) ، أي: ومن العلامات الفارقة بين علماء الدنيا والآخرة (أن يكون شديد التوقي) ، أي التحرز (من محدثات الأمور) ، التي أحدثها الناس فيما بعد، (وإن اتفق عليه الجمهور) جميع الناس ومعظمهم، (فلا يغرنه إطباق الخلق) وإجماعهم (على ما أحدث) وابتدع (بعد) عصر (الصحابة) والقرون الأول فأخرج اللكائي في السنة من رواية شبابة، قال: حدثنا هشام بن الغاز، عن نافع عن ابن عمر قال: كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة، (وليكن حريصا على التفتيش) ، والبحث (عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم) ، وما كانوا عليه من إيثار الآخرة على الدنيا، (وما كان فيه أكثر هممهم) ورغباتهم (أكان) ذلك (في التصنيف والتدريس والمناظرة) مع الأقران (و) تولية (القضاء والولاية) للأعمال، (وتولي الأوقاف) بالنظر والتحدث فيها، (والوصايا و) تولية (مال الأيتام ومخالطة السلاطين) ، والأمراء والتجار، (ومجاملتهم في العشرة) ومؤانستهم إياها فيها، (أو) كان (في الخوف) من الله تعالى (والحزن) في أنفسهم، (والتفكر) في نعم الله تعالى، (والمجاهدة) مع النفس، (ومراقبة الباطن والظاهر واجتناب دقيق الإثم وجليله، والحرص على إدراك خفايا شهوات النفس و) معرفة (مكايد الشيطان) ومدافعته (إلى غير ذلك من علوم الباطن) كعلم الورع في المكاسب والمعاملات والفرق بين نفاق العلم، والعمل والفرق بين خواطر الروح والنفس، وبين خاطر الإيمان واليقين، والعقل، وتفاوت مشاهدات العارفين وعلم القبض والبسط، وغير ذلك مما يأتي كل ذلك مصرحا مبسوطا في كلام المصنف، (واعلم تحقيقا أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق) والتوفيق والرشد (أشبههم بالصحابة) أي بطرائقهم، (وأعرفهم بطرائق السلف فمنهم أخذ الطريق) ، ونص القوت: فأعلم الناس في هذا الوقت، وأقربهم من التوفيق والرشد أتبعهم لمن سلف وأشبههم بشمائل صالحي الخلق كيف وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سئل: من أعلم الناس؟ قال: أعرفهم بالحق إذا اشتبهت الأمور، وقال بعض السلف: أعلم الناس أعرفهم باختلاف الناس; (ولذلك قال علي كرم الله وجهه: خيرنا أتبعنا لهذا الدين لما قيل له) : إنك (خالفت فلانا) في كذا هكذا أورده صاحب القوت، زاد: وكما قيل لسعدان بن المسيب يقرأ (ما ننسخ من آية أو ننساها) ، فقال: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على ابنه، ثم قرأ أو ننسها ، (فلا ينبغي أن تكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الناس رأوا رأيا فيما هم فيه) ، كذا في أكثر النسخ، وفي بعضها: رأوا الفضل فيما هم فيه، (لميل طباعهم إليه) بمجرد حظ، (ولم تسمح طباعهم) وفي نسخة: نفوسهم، (بالاعتراف) والتسليم لطريقة السلف، (فإن ذلك سبب الحرمان من الجنة فادعوا أنه لا سبيل إلى الجنة سواه) ، أي سوى طريقه الذي سلكه، وأخرج اللكائي في السنة من رواية إبراهيم بن أبي حفصة، قال: قلت لعلي بن الحسين: ناس يقولون لا ننكح إلا من كان على رأينا، ولا نصلي إلا خلف من كان على رأينا، قال علي بن الحسين: ننكحهم بالسنة ونصلي خلفهم بالسنة، (ولذلك قال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: ولفظ القوت: وكان الحسن البصري يقول: (محدثان أحدثا في الإسلام; رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه) ، وفي بعض النسخ: برأيه (ومترف) أي متنعم (يعبد الدنيا) حيث جعلها أكبر همه (لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار) ، أي اتركوهما فإن مصيرهما إلى النار، زاد في القوت: اعرفوا إنكارهم لربهم بأعمالهم، (أن رجلا أصبح في الدنيا بين مترف يدعو إلى دنياه، وصاحب هوى يدعو إلى هواه، وقد عصمه الله تعالى منهما) أي من اتباعهما (يحن إلى) طريقة (السلف الصالح) ، ويميل إلى شمائلهم، (يسأل عن أفعالهم) وفي القوت عن فعالهم، (ويقتص) أي يتتبع (آثارهم متعرض لأجر) وفي القوت لتعرض لأجر (عظيم [ ص: 437 ] فكذلك) وفي القوت وكذلك (فكونوا) ، وأخرج اللكائي في السنة من رواية سعيد بن عامر، قال: أخبرنا حزم، عن غالب القطان، قال: رأيت مالك بن دينار في النوم، وهو قاعد في مقعده الذي كان يقعد فيه، وهو يشير بأصبعيه، وهو يقول: صنفان في الناس لا تجالسوهما، فإن مجالستهما فاسدة لقلب كل مسلم; صاحب بدعة قد غلا فيها، وصاحب دنيا مترف فيها، قال: ثم قال: حدثني بهذا حكيم وكان رجلا من جلسائه، قال: وكان معنا في الحلقة، قال: قلت: يا حكيم أنت حدثت مالكا بهذا الحديث؟ قال: نعم، قلت: عمن قال عن المتقانع من المسلمين؟ (وقد روي عن ابن مسعود) رضي الله عنه، (موقوفا) عليه، (و) روي أيضا (مسندا) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إنما هما اثنان الكلام والهدي) أي السيرة والطريقة، (فأحسن الكلام كلام الله عز وجل) المنزل على رسله في الكتب وأعظمها الكتب الأربعة، (وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم: إلا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة بدعة) أي خصلة محدثة، (وإن كل بدعة ضلالة ألا لا يطولن عليكم الأمد) بالدال محركة: الزمان ومن رواه بالراء فقد صحف، (فتقسو قلوبكم) وهو من قوله عز وجل: ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم (ألا كل ما هو آت قريب إلا أن البعيد ما ليس بآت) ، هكذا أورده صاحب القرن .

وقال العراقي: رواه ابن ماجه من رواية أبي إسحاق الربيع عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذكره إلا أنه قال: وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وقال: إلا أن ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما ليس بآت. وزاد ألا إنما الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، الحديث، وإسناده جيد، وزاد الطبراني بعد قوله: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" اهـ .

والحديث طويل وفي آخره بعد قوله: "من وعظ بغيره إلا أن قتال المؤمن كفر، وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ألا وإياكم والكذب، لا يصلح لا بالجد ولا بالهزل، ألا لا يعد الرجل صبيه فلا يفي له، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإنه يقال للصادق: صدق وبر، ويقال للكاذب: كذب وفجر، ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذابا" هكذا عند ابن ماجه بطوله، وأخرجه اللكائي في السنة، من هذا الطريق، إلى قوله: فتقسو قلوبكم، فيه: "إن كل محدثة" بلا واو وفيه: ألا لا يطول من غير نون ثقيلة، وأخرج أيضا من رواية الأعمش عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال، قال: قال عبد الله: "إن أحسن الهدي هدي محمد، وإن أحسن الكلام كلام الله، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فكل محدثة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية عمرو بن ثابت، عن عبد الله بن عباس، قال: قال عبد الله بن مسعود: "إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الحديث ذكر الله، وخير القصص القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها" الحديث بطوله .

قال العراقي: وفي الباب عن جابر بن عبد الله، رواه مسلم، والنسائي، وابن ماجه من رواية جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه" الحديث، وفيه ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" قلت: وأخرج أبو داود والترمذي، واللكائي، وأبو بكر الآجري، وعياض في الشفاء من طريقه كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فساقوا الحديث، وفيه: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وأخرج اللكائي في السنة من رواية سفيان بن عيينة، عن هلال الوزان حدثنا عبد الله بن حكيم، وكان قد أدرك الجاهلية، قال: أرسل إليه الحجاج يدعوه، فلما أتاه قال: كيف كان عمر يقول؟ قال: كان عمر يقول: "إن أصدق القيل قيل [ ص: 438 ] الله، ألا وإن أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة، ألا وإن الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، ولم يقم الصغير على الكبير، فإذا قام الصغير على الكبير فقد".

وأخرج أيضا من رواية واصل الأحدب، عن عاتكة بنت جزء قالت: أتينا ابن مسعود، فسألناه عن الدجال، قال: أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم، فأيما مرية ورجيل أدرك ذلك الزمان، فالسمت الأول السمت الأول، فأنا اليوم على السنة.

وأخرج أيضا من حديث معاذ: "ستكون فتنة" وفيه: "فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة"، (وفي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق من مال ما اكتسبه، من غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن ذلك في نفسه وحسنت خليقته، وصلحت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من أقواله، ووسعته السنة، ولم يعدها إلى بدعة) ، هكذا أورده صاحب القوت بلفظ: وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، التي رويناها، وفيه بعد قوله: وخالط أهل الفقه والحكمة زيادة: وجانب أهل الذل والمعصية، وقال العراقي: فيه عن الحسين بن علي وأبي هريرة، وركب المصري، أما حديث الحسين بن علي فرواه أبو نعيم في الحلية من رواية القاسم بن محمد بن جعفر، عن آبائه من أهل البيت إلى الحسين قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطيبا على أصحابه، فذكره بزيادة في أوله، وهي: كان الموت في هذه الدنيا على غيرنا، كتب الحديث، وفيه: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة، ولم يعدها إلى البدعة" وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن لال في مكارم الأخلاق، من رواية عصمة بن محمد الخزرجي عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رفعه، فساقه بمثل حديث الحسين بن علي، وأما حديث ركب المصري فرواه الطبراني، والبيهقي من رواية إسماعيل بن عياش، عن عنبسة بن سعيد الكلاعي، عن نصيح العبسي، عن ركب المصري رفعه: "طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالا جمعه في غير معصية، ورحم المساكين وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، وأما حديث أنس فرواه البزار في مسنده، مختصرا بإسناد ضعيف، ولفظه: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة اهـ .

قلت: ركب أخرجه أيضا البخاري في التاريخ والبغوي في معجم الصحابة، والبارودي وابن قانع، وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، قال: بلغنا أن وهب بن منبه كان يقول: طوبى لمن فكر في عيبه عن عيب غيره، وطوبى لمن تواضع لله عز وجل من غير معصية وجالس أهل العلم والحلم، وأهل الحكمة، ووسعته السنة، ولم يتعدها إلى البدعة، وقال صاحب القوت، بعد أن أورد الخطبة المذكورة ما نصه: وقال بعض العلماء الأدباء كلاما منظوما في وصف زماننا هذا كأنه شاهده:


ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر وبقيت في خلف يزكي بعضهم
بعضا ليدفع معور عن معور أبني إن من الرجال بهيمة
في صورة الرجل السميع البصير فطن بكل مصيبة في ماله
فإذا أصيب بدينه لم يشعر فسل اللبيب تكن لبيبا مثله
من يسع في علم بلب يظفر

(وكان ابن مسعود يقول: حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل) هكذا أورده صاحب القوت: أي حسن السيرة والطريقة بمجانبة أهل البدع، وأخرج اللكائي في السنة من رواية الأعمش عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، (وقال) [ ص: 439 ] أيضا في وصف زمانه باليقين، في وصف زماننا بالشك، وأنتم في زمان خيركم فيه المسارع في الأمور، وسيأتي بعدكم (زمان يكون خيرهم) فيه (المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات) هكذا أورده صاحب القوت، ولم يقل في الأمور، (وقد صدق) ابن مسعود (فمن لم يتثبت في هذا الزمان) على دينه (ووافق الجماهير) في آرائهم (فيما هم عليه وخاض فيما خاصوا هلك كما هلكوا، وقال حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه، (أعجب من هذا أن معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى، وأن منكركم معروف زمان قد يأتي، وإنكم لن تزالوا بخير ما عرفتم الحق، وكان العالم فيكم غير مستخف به) هكذا أورده صاحب القوت من غير لفظة به في آخره، وأراد من قوله: غير مستخف من الخفاء لا من الخفة، كما يقتضيه سياق المصنف، وزاد وكان يقول أيضا: يأتي على الناس زمان يكون العالم بينهم بمنزلة الحمار الميت لا يتلفتون إليه يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا اليوم المؤمن فيهم أذل من الأمة، وفي حديث علي: يأتي على الناس زمان ينكر الحق تسعة أعشارهم، لا ينجو منه يومئذ إلا كل مؤمن نومة يعني صموتا متغافلا، وفي الخبر: يأتي على الناس زمان من عرف فيه الحق نجا، قيل: فأين العمل؟ قال: لا عمل يومئذ لا ينجو فيه إلا من هرب من شاهق إلى شاهق، وفي حديث أبي هريرة: "يأتي على الناس زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا"، وفي بعضها: بعشر ما يعلم، وقال بعض الخلف: أفضل العلم في آخر الزمان الصمت، وأفضل العمل النوم، يعني لكثرة الناطقين بالشبهات فصار الصمت للجاهل علما، ولكثرة الناطقين بالشبهات فصار النوم عبادة البطال، ولعمري، إن الصمت والنوم أدنى أحوال العالم، وهما أعلى حال الجاهل، وكان يونس بن عبيد يقول: أصبح اليوم من يعرف السنة غريبا، وأغرب منه من يعرفه يعني طريقة السلف، يقول: فمن عرف طريق من مضى فهو غريب أيضا؛ لأنه قد عرف غريبين، وقال حذيفة المرعشي: كتب إلي يوسف بن أسباط: ذهبت الطاعة، ومن يعرفها وكان أيضا يقول: ما بقي من يؤنس به، وقال: ما ظنك بزمان مذاكرة العلم فيه معصية، قيل: ولم ذلك؟ قال: لأنه لا يجدر أهل، وقد كان أبو الدرداء يقول: إنكم لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم وقيل: فيكم الحق فعرف، ويل لكم إذا كان العالم فيكم كالشاة النطيح.

وأخرج اللكائي في السنة من رواية حميد بن هلال قال: حدثني مولى لابن مسعود، قال دخل ابن مسعود على حذيفة، فقال: اعهد إلي ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى، وعزة ربي، قال: فاعلم أن الضلالة حق الضلالة، أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين فإن دين الله واحد، (ولقد صدق) حذيفة، (فأكثر معروفات هذه الأعصار) من الأقوال والأفعال كانت (منكرات في عصر الصحابة) رضوان الله عليهم، (إذ من غرر المعروف في زماننا تزيين المساجد) وفي نسخة: فرش المساجد (وتجميرها) أي تزويقها بأنواع الصباغات والفسيفساء والرخام الملون، (وإنفاق الأموال العظيمة) وصرفها (في دقائق عمارتها وفرش البسط) ، الرومية والأنماط (الرفيعة) الأثمان (فيها) وكذلك تلوين القبلة بالزخرف; لأن ذلك يشغل القلب ويلهي عن الخشوع والتدبر والحضور مع الله تعالى، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المبارك في الزهد عن أبي الدرداء رفعه: إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مساجدكم فالديار عليكم، قال المناوي: والذي عليه الشافعية أن تزويق المسجد ولو الكعبة بذهب أو فضة حرام مطلقا، وبغيرهما مكروه، وإن تحلية المصحف بذهب يجوز للمرأة لا للرجل وبالفضة يجوز مطلقا، (ولقد كان) إخراج الحصى والرمل و (فرش البواري) جمع بورياء وهي الحصير فارسية معربة، (في المسجد بدعة، وقيل: إنه من محدثات الحجاج) بن يوسف الثقفي المشهور، كما روي أن قتادة سجد فدخل في عينه حصبة، وكان ضريرا فقال: لعن الله الحجاج ابتدع هذه البواري يؤذي بها المصلين، (وقد كان الأولون) من السلف (ما يجعلون بينهم وبين التراب حاجزا) ويستحبون السجود عليه تواضعا لله تعالى وتخشعا وذلا، وهذا الذي ذكره المصنف من بدع الأفعال، ويدخل في ذلك تشييد البناء بالجص والآجر، يقال: أول من طبخ الطين هامان أمره به [ ص: 440 ] فرعون، ويقال: هو بناء الجبابرة، وكذلك النقوش، والتزويق في السقوف والأبواب سواء في المساجد أو البيوت، وكانوا يغضون النظر عن النظر إلى ذلك، غاب الأحنف بن قيس غيبة فرجع وقد خضروا سقف بيته وصفروه، فلما نظر إليه خرج من منزله، وحلف أن لا يدخله حتى يقلعوا ذلك منه، ويعيدوه كما كان، وقال يحيى بن يمان: كنت أمشي مع الثوري، في طريق فمررنا بباب منقوش مزوق فنظرت إليه فجذبني سفيان حتى جزت، فقلت: ما تكره من النظر، فقال: إنما بنوه لينظر إليه، ولو كان كل من مر به لا ينظر إليه ما بنوه، فكأنه خشي أن يكون بنظره معاونا له على بنيانه .




الخدمات العلمية