الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
واعلم أنا وإن قلنا الأكل على السفرة أولى فلسنا نقول : الأكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة أو تحريم إذا لم يثبت فيه نهي .

وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع ، أمرا من الشرع مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب وليس في المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه .

والأربع التي جمعت في أنها مبدعة ليست متساوية بل الأشنان حسن لما فيه من النظافة فإن الغسل مستحب للنظافة والأشنان أتم في التنظيف وكانوا لا يستعملونه لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم أو لا يتيسر أو كانوا مشغولين بأمور أهم من المبالغة في النظافة فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضا وكانت مناديلهم أخمص أقدامهم وذلك لا يمنع كون الغسل مستحبا .

وأما المنخل فالمقصود منه تطييب الطعام ، وذلك مباح ما لم ينته إلى التنعم المفرط .

وأما المائدة فتيسير للأكل وهو أيضا مباح ما لم ينته إلى الكبر والتعاظم .

وأما الشبع فهو أشد هذه الأربعة فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات وتحريك الأدواء في البدن فلتدرك التفرقة بين هذه المبدعات .

الرابع : أن يحسن الجلسة على السفرة في أول جلوسه ويستديمها كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جثا للأكل على ركبتيه ، وجلس على ظهر قدميه ، وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى .

وكان يقول : " لا آكل متكئا إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد .

"

التالي السابق


(واعلم أنا وإن قلنا أن الأكل على السفرة أولى) لموافقته بالسنة (فلسنا نقول: الأكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة أو تحريم) والمراد بالكراهة هنا كراهة التنزيه بدليل قوله: أو تحريم، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى التحريم كما حققه ابن القيم في " إعلام الموقعين "، واستدل بأقوال الأئمة من المذاهب الأربعة (إذ لم يثبت فيه منهي) صريح، (وما يقال أنه أبدع) أي: أحدث (بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس كل ما أبدع منهيا) مطلقا، (بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، وتدفع أمرا من الشرع مع بقاء علته) ، وأما ما شهد لجنسه أصل في الشرع إن اقتضته مصلحة تندفع به مفسدة، فإنه يسمى بدعة إلا أنها مباحة، (بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال) لاقتضاء مصلحة (إذا تغيرت الأسباب) والعلل (و) لا يخفى أنه (ليس في) استعمال (المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل) وتسهيله عند تناوله، (وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه، والأربع التي جمعت في أنها بدعة ليست متساوية) في الحكم (بل الأشنان أتم في التنظيف) وإزالة الدسومات، (وكانوا) فيما سلف (لا يستعملونه) في غسل أيديهم، (لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم) أي: لم تكن عادة لهم بذلك (أو لا يتيسر) تحصيله (وكانوا مشغولين بأمور) دينية هي (أهم من المبالغة في النظافة) والتشدد فيها، (فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضا) كما عرف من سيرتهم، (وكان منادلهم أخص أقدامهم) أو يتمسحون بالحصى كما ذكر عن أصحاب الصفة، وتقدم جميع ذلك في كتاب سر الطهارة (وذلك لا يمنع كون الغسل) بالماء (مستحبا) ، وهذا ظاهر .

(وأما المنخل فالمقصود منه) نخل الدقيق وأخذ الخلاصة منه، وفيه (تطبيب الطعام، وذلك مباح) شرعا (ما لم ينته إلى الكبر والتعاظم) فحينئذ ينهى عنه .

(وأما الشبع فهو أشد هذه الأربع) في الانتهاء عنه، (فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات) الباطنة (وتحريك الأدواء في البدن) من سوء طبيعة وفساد مزاج وثقل وهيضة ودوار وغير ذلك. (فليدرك) المتأمل (التفرقة بين هذه المبدعات) الأربعة (فإنها ليست على وتيرة واحدة) ، وإنما تختلف أحكامها باختلاف الأسباب والعلل .

(الرابع: أن يحسن الجلسة) بكسر الجيم اسم لهيئة الجلوس (على السفرة في أول جلوسه) عليها (ويستديمها) إلى أن يفرغ، (كذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربما جثا للأكل على ركبتيه، وجلس على ظهر قدميه، وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى، وكان يقول: "لا آكل متكئا إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد") .

قال العراقي : رواه أبو داود من حديث عبد الله بن بسر في أثناء حديث: أتوا بتلك القصعة فالتفوا عليها، فلما كثروا جثا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. الحديث. وله وللنسائي من حديث أنس: رأيته يأكل وهو مقع من الجوع.

وروى أبو الحسن بن المقري في الشمائل من حديثه: كان إذا جلس على الطعام استوفز على ركبته اليسرى وأقام اليمنى ثم قال: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأفعل كما يفعل العبد" وإسناده ضعيف، اهـ .

قلت: ورد بسند حسن" أهديت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاة فجثا على ركبته يأكل، فقال له أعرابي: ما هذه الجلسة ؟ فقال: " إن الله جعلني كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا"، وإنما فعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك تواضعا لله تعالى، ومن ثم قال: " إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد".

وفي خبر مرسل أو معضل عن الزهري: " أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ملك لم يأته قبلها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا أو نبيا ملكا، فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن تواضع فقال: لا بل عبدا نبيا، قال: فما أكل متكئا قط". لكنه أخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أنه أكل [ ص: 215 ] متكئا مرة، فإن صح فهو زيادة مقبولة. ويؤيدها ما أخرجه ابن شاهين عن عطاء بن يسار: أن جبريل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكل متكئا فنهاه. وفسر الأكثرون الاتكاء بالميل على أحد الجانبين لأنه يضر بالآكل، فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة وتضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء. ونقل في الشفاء عن المحققين أنهم فسروه بالتمكن للأكل والقعود في الجلوس كالمتربع المعتمد على وطاء تحته، لأن هذه الهيئة تستدعي كثرة الأكل والكبر، وورد بسند ضعيف زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل.

قال مالك رحمه الله: هو نوع من الاتكاء. قال بعض المتأخرين: هنا في هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئا ولا يختص بصفة بعينها، واختلفوا في حكم الاتكاء في الأكل فقال ابن القاص: كراهته من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-. وقال غيره: يكره أيضا لغيره إلا لضرورة، وعليه يحمل ما ورد عن جمع من السلف وتعقب الحمل المذكور بأن ابن أبي شيبة أخرج عن جمع منهم الجواز مطلقا، لكن يؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضا عن النخعي: كانوا يكرهون أن يأكلوا تكاة مخافة أن تعظم بطونهم، وإن ثبت كون الاتكاء مكروها أو خلاف الأولى، فالسنة أن يجلس جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى .

قال ابن القيم: ويذكر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى تواضعا لله عز وجل وأدبا بين يديه، قال: وهذه الهيئة أنفع الهيئات للأكل وأفضلها، لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله تعالى عليه .

وأما حديث أنس: "رأيته يأكل وهو مقع من الجوع" فقد أخرجه الترمذي أيضا في الشمائل، ومعناه أي: جالس على أليتيه ناصب ساقيه، هذا هو الإقعاء المكروه في الصلاة، وإنما لم يكره هنا لأنه ثم تشبه بالكلاب، وهنا تشبه بالأرقاء، ففيه غاية التواضع، ولهم إقعاء ثان لكنه مسنون في الجلوس بين السجدتين، لأنه صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه فعله فيه، وهو أن ينصب ساقيه ويجلس على عقبيه. قيل: وهذا هو المراد هنا، والأصح الأول; لأن هيئته تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- غير متكلف ولا يعتني بشأن الأكل. وفي القاموس: أقعى في جلوسه تساند إلى ما وراءه، وهذا يشعر بمزيد الرغبة عن الأكل المناسب لحاله -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذ فمعنى: وهو مقع من الجوع أي: مستند إلى ما وراءه من الضعف الحاصل له بسبب الجوع، وبما قررته يعلم أن الاستناد ليس من مندوبات الأكل; لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله إلا لذلك الضعف الحاصل له -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: كان يقول: "لا آكل متكئا" رواه البخاري والترمذي في الشمائل من حديث أبي جحيفة. وقوله: " إنما أنا عبد... " إلخ تقدم من قبله من حديث أنس بلفظ: " وافعل " بدل " اجلس " ورواه البزار من حديث ابن عمر دون قوله: واجلس. ورواه أحمد في الزهد من حديث عطاء بن أبي رباح. ومن حديث الحسن بجملته مرسلا .




الخدمات العلمية