الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما العبد ، العاقل ، فلا يصح بيعه ، وشراؤه إلا بإذن سيده فعلى البقال والخباز والقصاب وغيرهم أن لا يعاملوا العبيد ما لم تأذن لهم السادة في معاملتهم ، وذلك بأن يسمعه صريحا أو ينتشر في البلد أنه مأذون له في الشراء لسيده وفي البيع له ، فيعول على الاستفاضة ، أو على قول عدل يخبره بذلك ، فإن عامله بغير إذن السيد ، فعقده باطل ، وما أخذه منه مضمون عليه لسيده ، وما تسلمه إن ضاع في يد العبد لا يتعلق برقبته ، ولا يضمنه سيده ، بل ليس له إلا المطالبة إذا عتق .

التالي السابق


(وأما العبد البالغ، العاقل، فلا يصح بيعه، وشراؤه إلا بإذن سيده) الذي يملك رقبته (فعلى البقال) بائع البقل، وهو كل نبت اخضرت به الأرض، قاله ابن فارس، والمراد به: الذي يبيع الخضراوات، وفي معناه الزيات، والجبان، واللبان، ويطلق عرفا البقال على كل هؤلاء (والخباز) الذي يبيع الخبز، والذي يخبزه (والقصاب) أي: بائع اللحم (وغيرهم) من أرباب الصنائع، المتعامل بها في الأسواق (أن لا يعاملوا العبيد) إذا جاءوا يشترون منهم شيئا، أو يبيعون (ما لم يأذن لهم في معاملتهم السادة، وذلك) الإذن: (بأن يسمعه) من سيده (صريحا) لا كناية، وتلميحا (أو ينتشر في البلد أنه مأذون في الشراء لسيده، والبيع، فيعول على الاستفاضة، أو على قول عدل يخبره بذلك، فإن عامله بغير إذن السيد، فعقده باطل، وما أخذ منه مضمون عليه لسيده، وما سلمه إن ضاع في يد العبد لا يتعلق برقبته، ولا يضمنه سيده، بل ليس له إلا المطالبة به إذا عتق) .

اعلم أن العبد المأذون في البيع والشراء لسيده، يتوجه الكلام فيه في ثلاثة فصول: أحدها: فيما يجوز وثانيها: في أن الطلبة في الديون الواجبة بمعاملات، على من تتوجه؟ وثالثها: في أنها من أين تؤدى؟

أما الأول: فاعلم أنه يجوز للسيد أن يأذن لعبده في سائر التصرفات; لأنه صحيح العبارة، ومنعه من التصرفات لحق السيد، فإذا أمره ارتفع، ويستفيد المأذون بالتجارة بهذا الإذن كل ما يندرج تحت اسم التجارة، أو كان من لوازمها، وتوابعها، وفي ذلك صور مفصلة في شرح الوجيز .

ومن عامل المأذون وهو لا يعرف رقه، فتصرفه صحيح، ولا يشترط علمه بحاله، ذكره الإمام في النهاية، وهو أظهر الوجهين; لأن الأصل والغالب على الناس الحرية، ولو عرف رقه، لم يجز له أن يعامله، حتى يعرف إذن السيد .

ولا يكفي قول العبد: أنا مأذون; لأن الأصل عدم الإذن المستحق، وقال أبو حنيفة: يكفي قول العبد، كما يكفي قول الوكيل، وإنما يعرف كونه مأذونا، إما بسماع الإذن، أو ببينة تقوم عليه .

ولو شاع في الناس كونه مأذونا، فوجهان: أصحهما أنه يكتفى به أيضا; لأن إقامة البينة لحل معاملته مما يعسر .

ولو عرف كونه مأذونا ثم قال: حجر علي السيد، لم يعامل، فإن قال السيد: لم أحجر عليه، فوجهان، أصحهما: أنه لا يعامل أيضا; لأنه العاقد، والعقد باطل بزعمه. والثاني، وبه قال أبو حنيفة: يجوز معاملته، اعتمادا على قول السيد .

ولو عامل المأذون من عرف رقه، ولم يعرف إذنه، ثم بان كونه مأذونا، ففيه وجهان .

ولو عرف كونه مأذونا، فعامله، ثم امتنع من التسليم إلى أن يقع الإشهاد على الإذن، فله ذلك، خوفا من خطر إنكار السيد .



*وأما الفصل الثاني: فاعلم أنه: إذا باع المأذون سلعة، وقبض الثمن، واستحقت السلعة، وقد تلف الثمن في يد [ ص: 425 ] العبد، فللمشتري الرجوع ببدله على العبد; لأنه المباشر للعقد، وفي وجه: لا رجوع على العبد; لأن يده يد السيد، وعبارته مستعارة في الوسط، وفي مطالبة السيد ثلاثة أوجه، أصحها: أنه يطالب أيضا; لأن العقد له، فكأنه البائع، والقابض للثمن. والثاني: لا يطالب; لأن السيد بالإذن قد أعطاه استقلالا، فشرط من يعامله قصر الطمع على يده، وذمته. والثالث: إن كان في يد العبد وفاء، فلا يطالب السيد; لحصول غرض المشتري، وإلا فيطالب، وهذه الأوجه الثلاثة، هكذا رتبها الإمام في النهاية .

وعن ابن سريج: أنه إن كان السيد قد دفع إليه غير مال، وقال: بعها، وخذ ثمنها، واتجر فيه، أو قال: اشتر بهذه السلعة، وبعها، واتجر في ثمنها، ففعل، ثم ظهر الاستحقاق، وطالبه المشتري بالثمن، فله أن يطالب السيد بقضاء الدين عنه; لأنه أوقعه في هذه الغرامة .

وإن اشترى باختياره سلعة، وباعها، ثم ظهر الاستحقاق، فلا، وإذا توجهت الطلبة على العبد، لم تندفع بعتقه، لكن في رجوعه بالمغروم بعد العتق وجهان، أحدهما: يرجع; لانقطاع استحقاق السيد بالعتق. وأظهرهما: لا يرجع; لأن المؤدى بعد العتق كالمستحق بالتصرف السابق على الرق .



*وأما الفصل الثالث: فاعلم أن ديون معاملات المأذون مؤداة مما في يده، من مال التجارة، سواء فيه الأرباح الحاصلة بتجارته، أو رأس المال، وهل تؤدى من اكتسابه بغير طريق التجارة؟ كالاصطياد، والاحتطاب، فيه وجهان، أحدهما: لا، كسائر أموال السيد. وأصحهما: نعم، كما يتعلق به المهر، ومؤن النكاح، ثم ما فضل من ذلك يكون في ذمته، إلى أن يعتق، وهل يتعلق ما يكتسب بما بعد الحجر؟ فيه وجهان، قال في التهذيب: أصحهما: أنه لا يتعلق، ولا تتعلق برقبته، ولا بذمة السيد، أما أنها لا تتعلق برقبته; فلأنه دين لزمه برضا من له الدين، فوجب أن لا يتعلق برقبته، خلافا لأبي حنيفة. وأما أنه لا يتعلق بذمة السيد; فلأن ما لزم بمعاوضة مقصودة بإذنه، وجب أن يكون متعلقا بكسب العبد، كالنفقة في النكاح، والمسائل الخلافية بين الإمامين أبي حنيفة، والشافعي، ينبني أكثرها على أنه يتصرف لنفسه، أو لسيده، فعند أبي حنيفة: يتصرف لنفسه. وعند الشافعي: لسيده. ولذلك إنه يقول: لا يبيع نسيئة، ولابدون ثمن المثل، ولا يسافر بمال التجارة، إلا بإذن السيد، ولا يتمكن من عزل نفسه، بخلاف الوكيل، والله أعلم .




الخدمات العلمية