الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبالجملة : كل من ينتصف لنفسه من غيره ولو في كلمة ، ولا ينصف بمثل ما ينتصف فهو داخل تحت قوله تعالى : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون الآيات فإن تحريم ذلك في المكيل ليس لكونه مكيلا ، بل لكونه أمرا مقصودا ترك العدل والنصفة فيه فهو جار في جميع الأعمال فصاحب الميزان في خطر الويل وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته فالويل له إن عدل عن العدل ، ومال عن الاستقامة ولولا تعذر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا فلا ينفك عبد ليس معصوما عن الميل عن الاستقامة إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتا عظيما ; فلذلك تتفاوت مدة مقامهم في النار إلى أوان الخلاص حتى لا يبقى بعضهم إلا بقدر تحلة القسم ويبقى بعضهم ألفا ، وألوف سنين فنسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل فإن الاشتداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه ، فإنه أدق من الشعرة ، وأحد من السيف ولولاه ، لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار ، الذي من صفته أنه أدق من الشعرة ، وأحد من السيف وبقدر الاستقامة على هذا الصراط المستقيم يخف العبد يوم القيامة على الصراط وكل من خلط بالطعام ترابا أو غيره ثم كاله فهو من المطففين في الكيل وكل قصاب وزن مع اللحم عظما لم تجر العادة بمثله فهو من المطففين في الوزن وقس على هذا سائر التقديرات ، حتى في الذرع الذي يتعاطاه البزاز فإنه إذا اشترى أرسل الثوب في وقت الذرع ، ولم يمده مدا وإذا باعه مده في الذرع ; ليظهر تفاوتا في القدر فكل ذلك من التطفيف المعرض صاحبه للويل .

التالي السابق


(وبالجملة: كل من ينتصف لنفسه من غيره) في كل شيء (ولو في كلمة، ولا ينصف) لغيره (بمثل ما ينتصف) لنفسه (فهو داخل تحت قوله تعالى: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ) ، وهذا على سبيل التجوز، وعليه يخرج قول الحريري:

*وكلت للخل كما كال لي* على وفاء الكيل أو بخسه

.

(فإن تحريم ذلك في المكيال ليس لكونه مكيلا، بل لكونه أمرا مقصودا) بذاته (ترك العدل والنصفة) فيه، وهو بالتحريك اسم من الانتصاف (فهو جار) حكمه (في جميع الأعمال) القلبية، واللسانية (فصاحب الميزان في خطر الويل) إن لم يعدل فيه (وكل مكلف) توجه إليه الخطاب (فهو صاحب موازين في أفعاله) وهي أعمال الجوارح (وأقواله) وهي أعمال اللسان وحده (وخطراته) وهي أعمال القلب (والويل له إن عدل) أي: مال (عن) طريق (العدل، ومال عن) حد (الاستقامة) وهو الوفاء بكل العهود، برعاية خط الوسط في كل أمر ديني ودنيوي (ولولا تعذر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى) في كتابه العزيز: ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) قال البيضاوي: أي: ما منكم إلا واصلها، حاضر دونها، يمر بها المؤمن وهي خامدة، وتنهار بغيرهم، كان ورودهم واجبا، أوجبه الله على نفسه، وقضى بأن وعد به وعدا لا يمكن تخلفه .

وقيل: أقسم عليه (فلا ينفك عبد ليس معصوما) أي: محفوظا (عن الميل من الاستقامة) أي: لزوم الصراط المستقيم (إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتا عظيما; فلذلك تتفاوت مدة مقامهم في النار) وهذا يؤيد قول من قال: إن الورود هنا بمعنى الدخول (أو أن الخلاص) منها (حتى لا يبقى بعضهم) فيها (إلا بقدر تحلة القسم) في المصباح: حللت اليمين، إذا فعلت ما يخرج عن الحنث، فانحلت هي، وحللتها بالتثقيل، والاسم: التحلة، بفتح التاء، وفعلته، تحلة القسم أي: بقدر ما يحل اليمين، ولم أبالغ فيه، ثم كثر هذا، حتى قيل لكل شيء لم يبالغ فيه: تحليل .

وقيل: تحلة القسم هو جعلها حلالا، إما باستثناء، أو كفارة .

وقال البيضاوي: وفي قوله تعالى: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا هو دليل على أن المراد بالورود: الجثو حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الفجرة بعد تجاثيهم، وتبقى الفجرة فيها منها ربهم على جثياتهم، اهـ .

(ويبقى بعضهم) فيها (ألفا، وألوف سنين) كما يرشد إليه قوله تعالى: ونذر الظالمين فيها جثيا (فنسأل الله) عز وجل (أن يقربنا من الاستقامة والعدل) أي: يأخذ بنواصينا إليها، ولولا تعذر هذا المقام لما قال صلى الله عليه وسلم: شيبتني هود وأخواتها أي: لما في هود من قوله تعالى: فاستقم كما أمرت (فإن الاشتداد إلى متن الصراط المستقيم) رعاية حفظ الوسط، من غير ميل إلى الإفراط أو التفريط (غير مطموع فيه، فإنه) صعب [ ص: 492 ] المرتقى; إذ هو (أدق من الشعر، وأحد من السيف، ولولا ذلك لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار، الذي من صفته أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف) كما ورد ذلك في الأخبار الصحيحة، تقدم بيانها في آخر شرح كتاب قواعد العقائد .

(وبقدر الاستقامة على هذا الصراط في الدنيا) وهو المستقيم الذي لا عوج فيه، ومنهم من حمله على وحدة الوجود (يخف العبد يوم القيامة على الصراط) الممدود على متن جهنم .

(وكل من خلط بالطعام ترابا أو غيره) كالزوان والتبن (ثم كاله) للناس (فهو من المطففين في الكيل) ولو كان كيله سواء، اللهم إلا أن يكون ذلك المخلوط من أصل الأرض الذي رفع منه الطعام، فإنه في مثل هذا يسامح (وكل قصاب وزن مع اللحم عظما لم تجر العادة بمثله فهو من المطففين في الوزن) اللهم إلا أن يكون مما لا يستغنى عنه .

(وقس عليه سائر التقديرات، حتى في الذرع الذي يتعاطاه البزار) يجري فيه العدل والبخس (فإنه إذا اشترى أرسل الثوب في وقت الذرع، ولم يمده مدا) ; ليتسع له (وإذا باع مده في الذرع; ليظهر تفاوت في القدر) فغاية ما يزيد أو ينقص قدر أصبعين، أو زيادة (وكل ذلك من التطفيف المعرض صاحبه للويل) الطويل .




الخدمات العلمية