الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الرابع : في توفية الدين .

ومن الإحسان فيه حسن القضاء وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحق ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : خيركم أحسنكم قضاء .

ومهما قدر على قضاء الدين فليبادر إليه ولو قبل وقته وليسلم ، أجود مما شرط عليه ، وأحسن وإن عجز فلينو قضاءه مهما قدر .

قال صلى الله عليه وسلم : من ادان دينا وهو ينوي قضاءه وكل الله به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه .

وكان جماعة من السلف يستقرضون من غير حاجة ; لهذا الخبر ومهما كلمه صاحب الحق بكلام خشن فليحتمله وليقابله باللطف اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه صاحب الدين عند حلول الأجل ، ولم يكن قد اتفق قضاؤه فجعل الرجل يشدد الكلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم به أصحابه فقال : دعوه فإن لصاحب الحق مقالا .

ومهما دار الكلام بين المستقرض والمقرض ، فالإحسان أن يكون الميل الأكثر للمتوسطين إلى من عليه الدين ، فإن المقرض يقرض عن غنى ، والمستقرض يستقرض عن حاجة وكذلك ينبغي أن تكون الإعانة للمشتري أكثر ، فإن البائع راغب عن السلعة يبغي ترويجها ، والمشتري محتاج إليها هذا هو الأحسن إلا أن يتعدى من عليه الدين حده فعند ذلك نصرته في منعه عن تعد به وإعانة ، صاحبه؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل كيف ننصره ظالما فقال منعك إياه من الظلم نصرة له .

التالي السابق


(الرابع: في توفية الدين) أي: أدائه تماما (ومن الإحسان فيه حسن القضاء) أي: بسماحة، ولين كلام (وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحق) بدينه (ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه، فيشق عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: خيركم أحسنكم قضاء) . وفي القوت: خير الناس أحسنهم قضاء.

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة اهـ .

قلت: ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، والنسائي، بلفظ: خياركم أحاسنكم قضاء.

(ومهما قدر على أداء الدين فليبادر إليه) ولا يؤخره (ولو قبل وقته، ويسلم أجود مما شرط عليه، وأحسن) فقد استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعرابي جملا، فلما جاءت إبل الصدقة رد له أحسن منه.

(وإن عجز) عن دفعه (فلينو قضاءه مهما قدر) عليه (قال صلى الله عليه وسلم: من ادان دينا) أصله ادتان، أي: أخذ دينا (وهو ينوي قضاءه وكل الله به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه) . هكذا هو في القوت .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث عائشة: ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان معه من الله عون وحافظ. وفي رواية له: لم يزل معه من الله حارس. وفي رواية للطبراني في الأوسط: إلا معه عون من الله عليه حتى يقضيه عنه. اهـ .

قلت: وروى الطبراني في الكبير من حديث ميمونة: من ادان دينا ينوي قضاءه أداه الله تعالى عنه يوم القيامة. وفي لفظ له: من ادان دينا وهو يحدث نفسه بقضائه أعانه الله. ورواه الطبراني في الكبير من حديثهما: ما من مسلم يدان دينا يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا. وروى البيهقي من حديثهما: من ادان دينا ينوي قضاءه كان معه عون من الله على ذلك. والنسائي من حديثهما: من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل. ولأحمد، والبخاري، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله. ووقع عند المناوي في شرحه على الجامع، بدل ميمونة في الأحاديث التي ذكرت، ميمون. وقال عن أبيه، يعني: ميمون بن جابان الكردي، ولأبيه صحبة، وهذا غلط فليتنبه لذلك. ورواه الطبراني أيضا، والحاكم، والبزار، من حديث أبي أمامة: من ادان دينا وهو ينوي أن يؤديه أداه الله عنه يوم القيامة، ومن استدان دينا وهو لا ينوي أن يؤديه فمات، قال الله عز وجل يوم القيامة: ظننت أن آخذ لعبدي بحقه، فيؤخذ من حسناته، فتجعل من حسنات الآخر، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر فجعلت عليه. وما ذكره العراقي من رواية أحمد، فقد رواه أيضا الحاكم، وصححه، بلفظ: إلا كان له من الله عون.

(وكان جماعة من السلف يستقرضون من غير حاجة; لهذا الخبر) ولفظ القوت: فقد كان جماعة من السلف يدانون وهم واجدون; لأجل هذا. (ومهما كلمه مستحق الحق بكلام خشن) أي: أغلظ له في الكلام عند المطالبة (فليحتمله) ولا يرد عليه بمثله (وليتقابل باللطف) ولين الجانب (اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه صاحب الدين عند حلول الأجل، ولم يكن قد اتفق قضاؤه) . ولفظ القوت: وكان صلى الله عليه وسلم قد ادان دينا إلى [ ص: 503 ] أجل فجاءه صاحب الدين عند حلول الأجل، ولم يتفق عند النبي صلى الله عليه وسلم قضاؤه (فجعل الرجل يشدد الكلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ولفظ القوت: فجعل الرجل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويشدد عليه في الكلام (فهم به أصحابه) أي: قصدوه بالسوء (فقال: دعوه) أي: اتركوه (فإن لصاحب الحق مقالا) أي: صولة الطلب، وقوة الحجة، فلا يلام إذا تكرر طلبه لحقه، وهذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وكرمه، وقوة صبره على الجفاء مع القدرة على الانتقام.

وفيه: أن يحتمل من صاحب الدين الإغلاظ في المطالبة، لكن بما ليس بقدح، ولا شتم، ويحتمل أن القائل كان كافرا، أي: فأراد تألفه .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة، اهـ .

قلت: وكذلك رواه الترمذي، قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: أعطوه سنا مثل سنه... إلخ. وقد رواه ابن عساكر من حديث أبي حميد الساعدي، وأحمد، من حديث عائشة، وفي الحلية لأبي نعيم من حديث أبي هريرة، بلفظ: دعوه، فإن طالب الحق أعذر من النبي.

(ومهما دار الكلام بين المقرض والمستقرض، فالإحسان أن يكون الميل الأكثر من المتوسط) بينهما (إلى من عليه الدين، فإن المقرض) قد (يقرض) الغير (عن الغنى، والمستقرض يقترض عن حاجة) أي: احتياج (وكذا ينبغي أن يكون الإعانة للمشتري أكثر، فإن البائع راغب عن السلعة) ولولا رغبته عنها لما عرضها للبيع (يبتغي ربحها، والمشتري محتاج إليها) أي: إلى أخذها، وقولهم: المشتري معان، لا أصل له بهذا اللفظ، وكذا قولهم: أعينوا الشاري، لكن عند الديلمي من حديث أنس، في أثناء حديث: ارحم من تبيعه وارحم من تشتري منه، فإنما المسلمون إخوة (هذا هو الأحسن) ولفظ القوت: واستحب أن يكون أكثر معاونة الإنسان بين البيعين مع المشتري منهما، وأن يكون عونه أيضا بين المتداينين مع الذي له الدين (إلا أن يتعدى من عليه الدين حده) أي: يتجاوز (فعند ذلك يمنعه من تعديه، ويعين صاحبه) . ولفظ القوت: إلا أن يتعدى من له الدين، ويتعدى المشتري، فكن حينئذ على المتعدي (إذ قال صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك) أي: في الدين (ظالما) بمنعه من الظلم، من تسمية الشيء بما يئول إليه، وهو من وجيز البلاغة (أو مظلوما) بإعانته على ظالمه، وتخليصه منه (فقيل) : يعني: قال راويه (كيف ننصره ظالما) يا رسول الله؟! (فقال) صلى الله عليه وسلم: (منعك إياه من الظلم) أي: نصرك إياه على شيطانه، الذي يقويه، وعلى نفسه الأمارة بالسوء (نصرة له) ; لأنه لو ترك على ظلمه جره إلى الاقتصاص منه، فمنعه من وجوب القود نصرة له، وهذا من قبيل الحكم للشيء، وتسميته بما يئول إليه، وهو من عجيب الفصاحة، ووجيز البلاغة .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس، اهـ .

قلت: رواه البخاري في المظالم، وكذا أحمد، والترمذي في الفتن، وروى مسلم معناه عن جابر، وفيه قصة هي بيان سببه، وفي آخر الحديث: ولينصر الرجل أخاه، ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه، فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره. رواه من طريق ابن الزبير، عن جابر، وللبخاري أيضا، بالاقتصار على الجملة الأولى فقط، رواه من طريق هشيم، عن حميد، وعبيد الله، سمعنا أنسا به، وفي لفظ للبخاري: قيل: كيف أنصره ظالما؟! قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصرة له. رواه في الإكراه، من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن جده، وفي لفظ له قاله: هذا ينصره مظلوما، فكيف ينصره ظالما؟! فقال: تأخذ فوق يديه. رواه من طريق معتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس، وعند الدارمي، وابن عساكر، من حديث جابر: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، إن يكن ظالما فاردده عن ظلمه، وإن يكن مظلوما فانصره.




الخدمات العلمية