الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الرتبة الوسطى أن لا يكون العوض غصبا ولا حراما ولكن يتهيأ لمعصية كما لو سلم عوضا عن الثمن عنبا والآخذ شارب الخمر أو سيفا وهو قاطع طريق فهذا لا يوجب تحريما في مبيع اشتراه في الذمة ، ولكن يقتضي فيه كراهية دون الكراهية التي في الغصب وتتفاوت درجات هذه الرتبة أيضا بتفاوت غلبة المعصية على قابض الثمن وندوره ومهما كان العوض حراما ، فبذله حرام وإن احتمل تحريمه ولكن أبيح بظن فبذله مكروه ، وعليه ينزل عندي النهي عن كسب الحجام وكراهته .

إذ نهى عنه عليه السلام مرات ، ثم أمر بأن يعلف الناضح .

وما سبق إلى الوهم من أن سببه مباشرة النجاسة والقذر فاسد إذ يجب طرده في الدباغ والكناس ولا قائل به وإن قيل به فلا يمكن طرده في القصاب إذ كيف يكون كسبه مكروها وهو بدل عن اللحم ، واللحم في نفسه غير مكروه ومخامرة القصاب النجاسة أكثر منه للحجام والفصاد ، فإن الحجام يأخذ الدم بالمحجمة ويمسحه بالقطنة ولكن السبب أن في الحجامة والفصد تخريب بنية الحيوان وإخراجها لدمه وبه قوام حياته والأصل فيه التحريم ، وإنما يحل بضرورة وتعلم الحاجة والضرورة بحدس واجتهاد وربما يظن نافعا ويكون ضارا فيكون حراما عند الله تعالى ، ولكن يحكم بحله بالظن والحدس .

ولذلك لا يجوز للفصاد فصد صبي وعبد ومعتوه إلا بإذن وليه وقول طبيب ولولا أنه حلال في الظاهر لما أعطى عليه السلام أجرة الحجام .

ولولا أنه يحتمل التحريم لما نهى عنه فلا يمكن الجمع بين إعطائه ونهيه إلا باستنباط هذا المعنى .

وهذا كان ينبغي أن نذكره في القرائن المقرونة بالسبب ، فإنه أقرب إليه .

الرتبة السفلى ، وهي درجة الموسوسين ، وذلك أن يحلف إنسان على أن لا يلبس من غزل أمه فباع غزلها واشترى به ثوبا ، فهذا لا كراهية فيه ، والورع عنه وسوسة .

وروي عن المغيرة أنه قال في هذه الواقعة : لا يجوز ، واستشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الخمور فباعوها وأكلوا أثمانها .

وهذا غلط لأن بيع الخمور باطل إذ لم يبق للخمر منفعة في الشرع ، وثمن البيع الباطل حرام ، وليس هذا من ذلك .

التالي السابق


(الرتبة السفلى، وهي درجة الوسواس ، وذلك في أن يحلف إنسان على أن لا يلبس) ثوبا (من غزل أمه) مثلا، (فباع غزلها واشترى به) أي: بثمنه (ثوبا، فهذا لا كراهة فيه، والورع عنه وسوسة، وروي عن المغيرة) بن شعبة بن مسعود بن معتب الثقفي الصحابي المشهور رضي الله عنه، وولي إمرة البصرة ثم الكوفة مات سنة خمسين على الصحيح. (أنه قال في هذه الواقعة: لا يجوز، واستشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود إذ حرمت عليهم الخمور فباعوها ) ، هكذا في النسخ التي بأيدينا، قال العراقي : لم أجده هكذا، والمعروف أن ذلك في الشحوم، ففي الصحيحين من حديث جابر : "قاتل الله اليهود كان الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه، فأكلوا ثمنه اهـ .

قلت: ووقع في بعض النسخ من الكتاب: الشحوم بدل الخمور، وكأنه تصليح من النساخ إذ لا يلائم سياق المصنف، وهو قوله (وهذا غلط لأن بيع الخمر باطل إذ لم يبق في الخمر منفعة في الشرع، وثمن البيع الباطل حرام، وليس هذا من ذاك) قال الزيلعي من أصحابنا: بيع الميتة والدم والخنزير والخمر باطل لعدم ركن [ ص: 64 ] البيع وهو مبادلة المال بالمال، فلو هلكوا عند المشتري لم يضمن; لأن العقد في الباطل غير معتبر، فينتفي القبض بإذن المالك، وهذا قول أبي حنيفة ، وقيل: يضمن، وبه قال صاحباه، والأصل فيه أن بيع ما ليس بمال عند أحد كالدم والميتة التي ماتت حتف أنفها باطل، وإن كان مالا عند البعض كالخمر والخنزير والموقوذة، فإن هذه الأشياء مال عند أهل الذمة، فإن بيعت بدين في الذمة، فهو باطل، وإن بيعت بعين فهو فاسد في حق ما يقابلها حتى يملك ويضمن بالقبض باطل في حق نفسها حتى لا يضمن ولا يملك بالقبض; لأنها غير متقومة، لما أن الشرع أمر بإهانتها، وفي تمليكها بالعقد مقصود إعزازها، فكان باطلا، وذلك بأن يشتريها بدين في الذمة; لأن الثمن من الدراهم والدنانير غير مقصود، وإنما هي وسائل، والمقصود تحصيلها، فكان باطلا إعانة لها، وإن لم تكن مقصودة بأن كانت دينا في الذمة كان فاسدا; لأن المقصود تحصيل ما يقابلها، وفيه إعزاز له لا لها; لأن الثمن تبع كما ذكرنا، والأصل المبيع، وكذا إذا كانت معينة، وبيعت بعين مقابضة صار فاسدا في حق ما يقابلها باطلا في حقها اهـ .

وأما حديث جابر الذي في الصحيحين فقد تقدم ذكره قريبا، ولعل ذكر الخمور في سياق المصنف سبق قلم، فإن المغيرة أراد الاستدلال على تحريم بيع الخمور بتحريم بيع الشحوم، فقد روى ابن خسرو في مسنده من طريق الحسن بن زياد عن أبي حنيفة عن محمد بن قيس بن مخرمة الهمداني أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل عن بيع الخمر وأكل ثمنها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فحرموا أكلها واستحلوا أكل ثمنها، إن الله حرم بيع الخمر وشراءها وأكل ثمنها" . ورواه مسلم أيضا من حديث ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد ، وقد تفرد بهما مسلم عن البخاري ، وتقدم ذكر ألفاظهم قريبا، وإنما قال المصنف: وهذا غلط، أي: في القياس، فإنه قاس هذه الصورة على تحريم أثمان الشحوم وإن كان القياس في تحريمها على تحريم أثمان الخمور صحيحا، لكنه مع الفارق هذا إن ثبت أن المغيرة رضي الله عنه رفعت إليه هذه الحادثة بعينها من طريق صحيحة، وأجاب بما تقدم فإني لم أر رواية المغيرة لهذا الحديث في مظانها والله أعلم .




الخدمات العلمية