الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال ابن سيرين لا تحمل للسلطان كتابا حتى تعلم ما فيه وامتنع سفيان رحمه الله من مناولة الخليفة في زمانه دواة بين يديه ، وقال : حتى أعلم ما تكتب بها فكل من حواليهم من خدمهم وأتباعهم ظلمة مثلهم ، يجب بغضهم في الله جميعا .

روي عن عثمان بن زائدة أنه سأله رجل من الجند وقال أين الطريق ، فسكت وأظهر الصمم وخاف أن يكون متوجها إلى ظلم فيكون هو بإرشاده إلى الطريق معينا .

وهذه المبالغة لم تنقل عن السلف مع الفساق من التجار والحاكة والحجامين ، وأهل الحمامات والصاغة والصباغين ، وأرباب الحرف مع غلبة الكذب والفسق عليهم بل مع الكفار من أهل الذمة ، وإنما هذا في الظلمة خاصة الآكلين لأموال اليتامى والمساكين والمواظبين على إيذاء المسلمين الذين تعاونوا على طمس رسوم الشريعة وشعائرها .

، وهذا لأن المعصية تنقسم إلى لازمة ومتعدية والفسق لازم لا يتعدى وكذا الكفر ، وهو جناية على حق الله تعالى وحسابه على الله ، وأما معصية الولاة بالظلم وهو متعد فإنما يغلظ أمرهم لذلك وبقدر عموم الظلم وعموم التعدي يزدادون عند الله مقتا فيجب أن يزداد منهم اجتنابا ومن معاملتهم احترازا ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : يقال للشرطي : دع سوطك وادخل النار .

وقال صلى الله عليه وسلم : من أشراط الساعة رجال معهم سياط كأذناب البقر .

فهذا حكمهم ومن عرف بذلك منهم فقد عرف ، ومن لم يعرف فعلامته القباء وطول الشوارب وسائر الهيئات المشهورة .

فمن رئي على تلك الهيئة تعين اجتنابه ولا يكون ذلك من سوء الظن لأنه الذي جنى على نفسه إذ تزيا بزيهم ومساواة الزي تدل على مساواة القلب ولا يتجانن إلا مجنون ، ولا يتشبه بالفساق إلا فاسق نعم الفاسق قد يلتبس بأهل الصلاح فأما الصالح فليس له أن يتشبه بأهل الفساد لأن ذلك تكثير لسوادهم وإنما نزل قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم في قوم من المسلمين كانوا يكثرون جماعة المشركين بالمخالطة وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى يوشع ابن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم ، فقال ما بال الأخيار قال : إنهم لا يغضبون لغضبي فكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم .

وبهذا يتبين أن بعض الظلمة والغضب لله عليهم واجب . وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إن : الله لعن علماء بني إسرائيل إذ خالطوا الظالمين في معاشهم .

التالي السابق


(وقال) محمد (بن سيرين) رحمه الله تعالى: ( لا تحمل للسلطان كتابا حتى تعلم ما فيه ) أي: لئلا يكون معينا على ظلمه، (وامتنع سفيان) الثوري (من مناولة الخليفة) الذي كان (في زمانه دواة بين يديه، وقال: حتى أعلم ما تكتب بها) ، وقد تقدم هذا قريبا، (فكل من حواليهم) وأطرافهم (من خدمهم وأتباعهم ظلمة مثلهم، يجب بغضهم في الله جميعا) ظاهرا وباطنا من عرض دنيوي، (وروي عن عثمان بن زائدة) الرسي بن محمد الكوفي نزيل الري أحد العباد المبرزين، قال العجلي : ثقة صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: أصله من الكوفة ، واستقل إلى الري، وكان من العباد المتقشفين، وأهل الورع الدقيق والجهد الجهيد، روى له مسلم حديثا واحدا (أنه سأله واحد من الجند) بالري (فقال ابن الطريق، فسكت فأظهر المبالغة لم تنقل عن السلف من الفساق من التجار والحاكة والحجامين، وأهل الحمامات والصاغة والصباغين، وأرباب الحرف) من سائر الأصناف (مع غلبة الكذب والفسق عليهم) في معاملاتهم وحركاتهم، (بل مع الكفار من أهل الذمة، وإنما) نقل (هذا في الظلمة خاصة الآكلين لأموال اليتامى والمساكين) ظلما، (والمواظبين على إيذاء المسلمين) قولا وفعلا، (الذين تعاونوا على طمس رسوم الشريعة) وهدم (شعارها، وهذا لأن المعصية منقسمة إلى لازمة) على صاحبها لا تتعدى عنه، (ومتعدية) تتعدى إلى الغير، (والفسق لازم لا يتعدى وكذا الكفر، وهو جناية على الله وحسابه على الله، وأما معصية الولاة بالظلم) والتعدي، (فهو متعد) طار شررها في الآفاق، (وإنما يغلظ أمرهم) ويشدد (لذلك [ ص: 152 ] وبقدر عموم) الظلم وعموم التعدي يزدادون من الله بعدا و (مقتا) فسحقا لهم ثم سحقا، (فيجب أن يزداد منهم اجتنابا) وبعدا، (ومن معاملتهم احترازا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: يقال للشرطي: دع سوطك وادخل النار ) الشرط على لفظ الجمع أعوان السلطان; لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها للأعداء الواحد شرطة كغرفة وغرف، وإذا نسب إلى هذا قيل شرطي بالسكون أو إلى واحد .

قال العراقي : رواه أبو يعلى من حديث أنس بسند ضعيف اهـ، قلت: وعند الحاكم من حديث أبي هريرة : يقال لرجال يوم القيامة: اطرحوا سياطكم وادخلوا جهنم" ، وعند الديلمي من حديث عبد الرحمن بن سمرة يقال للجواز يوم القيامة: ضع سوطك وادخل النار .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من أشراط الساعة رجال معهم سياط كأذناب البقر ) ، قال العراقي : رواه أحمد والحاكم ، وقال: صحيح الإسناد من حديث أبي أمامة : "يكون في هذه الأمة في آخر الزمان رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر" . الحديث، ولمسلم من حديث أبي هريرة : "يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر" . وفي رواية له: صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر" . اهـ .

قلت: وتمام حديث أبي أمامة : يغدون في سخط الله ويروحون في غضبه ، ورواه كذلك أحمد ، وتمام حديث أبي هريرة بعد قوله: كأذناب البقر يضربون بها النساء، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" . وكذلك رواه أحمد . (فهذا حكمهم ومن عرف بذلك فقد عرف، ومن لم يعرف فعلا منه القباء) ، وكان أعوان الظلمة يلبسونه، (وطول الشارب وسائر الهيئات المشهورة) لهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة، (فمن رئي على تلك الحالة اجتنبه) صحبة وجوارا ومصادقة ومعاملة، (ولا يكون ذلك من سوء الظن) بالأخ المسلم; (لأنه الذي جنى على نفسه إذ تزيا بزيهم) ، وتشكل بشكلهم، (ومساواة الزي) في الظاهر (يدل على مساواة القلب) في الأغلب، (فلا يتجانن) أي: يتكلف من نفسه الجنون; (إلا مجنون، ولا يتشبه بالفساق إلا فاسق) ، والظاهر عنوان الباطن، (نعم الفاسق قد يلتبس فيتشبه بأهل الصلاح) والعلم بأن يلبس زيهم ويظهر على نفسه شعارهم، (وأما الصالح فليس له أن يتشبه بأهل الفساد) في زيهم; (لأن ذلك تكثير لسوادهم) ، وهو مذموم، (وإنما نزل قوله تعالى: الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم في قوم من المسلمين كانوا يكثرون جماعة الكفار بالمخالطة ) معهم، فمن كثر سواد قوم فهو منهم، وادعاؤهم الاستضعاف غير مسموع، فقد جعل الله سبحانه الأرض واسعة ولا معنى لخلطتهم .

(وروي أن الله تعالى أوصى إلى يوشع بن نون) بن أبي أيثم بن يوسف الصديق فتى موسى عليهم السلام نبي بعد موسى عليه السلام، (إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم، فقال) يوشع : (ما بال الأخيار) يا رب، (فقال: إنهم لن يغضبوا لغضبي وكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم) أي: يخالطونهم في الأكل والشرب، (وبهذا يتبين أن بغض الظلمة والغضب لله عليهم واجب .

وروى ابن مسعود ) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى لعن علماء بني إسرائيل إذا خالطوا الظالمين في معايشهم) .

قال العراقي : وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم . لفظ الترمذي وقال: حسن غريب اهـ، قلت ورواه أحمد كذلك، ولفظهم بعد قوله عيسى ابن مريم : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون لا والذي نفسي بيده حتى ناظروهم على الحق .




الخدمات العلمية