الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر في ذلك قال صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية ، والقتل بالموعظة يقتل البريء لتوعظ به العامة وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن السحت فقال يقضي الرجل الحاجة فتهدى له الهدية ولعله أراد قضاء الحاجة بكلمة لا تعب فيها ، أو تبرع بها لا على قصد أجرة ، فلا يجوز أن يأخذ بعده شيئا في معرض العوض شفع مسروق شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها ، وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ، ولا أتكلم فيما بقي منها ، وسئل طاوس عن هدايا السلطان فقال : سحت وأخذ عمر رضي الله عنه ربح مال القراض الذي أخذه ولداه من بيت المال وقال إنما أعطيتما لمكانكما مني إذ علم أنهما أعطيا لأجل جاه الولاية وأهدت امرأة أبي عبيدة بن الجراح إلى خاتون ملكة الروم خلوقا فكافأتها بجوهر فأخذه عمر رضي الله عنه فباعه وأعطاها ثمن خلوقها ، ورد باقيه إلى بيت مال المسلمين وقال جابر وأبو هريرة رضي الله عنهما هدايا الملوك غلول .

التالي السابق


(وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر في ذلك قال) رسول الله (صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمنا يستحل فيه السحت بالهدية ، والقتل بالموعظة يقتل البريء ليوعظ به العامة ) ، قال العراقي : لم أقف له على أصل. (وسئل ابن مسعود ) رضي الله عنه (عن السحت فقال) : هو أن (يقضي الرجل الحاجة فتهدى له الهدية) ، قال المصنف (لعله) رضي الله عنه (أراد قضاء الحاجة بكلمة لا تعب فيها، أو تبرع بها لا على قصد أجرة، فلا يجوز له أن يأخذ بعد ذلك شيئا في معرض العوض) ، أو أراد به حكما بباطل، فإن كان أهدي إليه لذلك فيكون سحتا (وتشفع مسروق شفاعة) هو مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفي ، أبو عائشة تبنته عائشة رضي الله عنها، وهو من أجل أصحاب ابن مسعود ، وقد صلى خلف أبي بكر ولقي عمر وعليا وزيد بن ثابت والمغيرة رضي الله عنهم، (فأهدى إليه المشفوع له جارية فردها، وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها، وسئل طاوس) بن كيسان اليماني رحمه الله تعالى (عن هدايا السلطان ) ما حكمها؟ (فقال: سحت) ; لأن غالبها إنما يتوصل بها لأجل الحكم بالباطل أو التوقف عن الحكم بحق واجب، فهذا هو السحت الذي قال الله تعالى فيه: سماعون للكذب أكالون للسحت ، قال الحسن : تلك الحكام يسمعون الكذب ممن يكذب في دعواه عندهم ويأتيهم برشوة فيأخذونها ويأكلونها سمعوا كذبه وأكلوا رشوته، والسحت حرام خاص، ليس كل [ ص: 162 ] حرام يقال له سحت، بل الحرام الشديد الذي يذهب المروءة، ولا يقدم عليه إلا من به شره عظيم وجوع شديد، ورشوة الحاكم من هذا القبيل لذلك سماها الله تعالى سحتا، ونظرا إلى هذا سمى طاوس هدايا الملوك سحتا، (وأخذ عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) نصف (ربح مال القراض الذي أخذه ولداه) عبد الله وعبيد الله (من مال بيت المال) من العراق ، أخرجه الشافعي في اختلاف العراقيين ولفظه: أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب لقيا أبا موسى بالبصرة في منصرفهما من غزوة نهاوند فسلفا منه مالا، وابتاعا به متاعا، وقدما المدينة ، وربحا فيه، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله، (وقال) لهما (إنما أعطاكما لمكانكما مني) أي: حيث أنتما من أولادي (إذ علم أنهما أعطيا لأجل جاه الولاية) ، فقالا: لو تلف لكان ضمانه علينا، أفلا يكون ربحه لنا؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين لو جعلته قرضا؟ فقال: قد جعلته وأخذ منهما ربح النصف، ثم رده إلى بيت المال، وهذا أحد الأقوال الثلاثة للأصحاب، وهو أنه يرجع لبيت المال ويضم إلى المال الذي استعمل فيه لوصولها بسببه، فإن رأى الإمام أن يعطيه جاز إذا كان يجوز أن يخص بمثلها، وإن رأى أن يشاطره جاز كما فعله عمر في هذه القصة .

والقول الثاني: أن يقر على العامل استدلالا بحديث ابن اللتبية ; حيث لم يسترجع منه .

والقول الثالث: إن كان مرتزقا أخذت منه لبيت المال، وإلا أقرت عليه .

(وأهدت امرأة أبي عبيدة) عامر بن عبد الله (بن الجراح) رضي الله عنه، إذ كان زوجها عاملا على الشام من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إلى خاتون ملكة الروم ) أي: زوجة الملك (خلوقا) أي: طيبا في قارورة (فكافأتها) أي: أرسلت في مكافأتها (بجوهر) مثمن (فأخذه عمر فباعه وأعطاها ثمن خلوقها، ورد باقيه في بيت مال المسلمين) ، والذي في السير الكبير للإمام محمد بن الحسن تخريج شمس الأئمة السرخسي ما نصه: أهدت امرأة عمر إلى امرأة ملك الروم ، فأهدت إليها امرأة الملك، فأعطاها عمر من ذلك مثل هديتها، وجعل ما بقي في بيت المال، فكلمه عبد الرحمن بن عوف ، فقال له عمر : قل لصاحبتك فلتهد إليها حتى ننظر أتهدي إليها مثل هذا . واستدل بهذه على أن أمير العسكر لو أهدى إلى ملك العدو فعوضه، فإن كان مثله أو فيه زيادة يتغابن بها، فهو سالم له، وإن كان أكثر فله من ذلك قيمة هديته، والفضل في الجماعة المسلمين الذين معه، وكذلك الحكم في القائد الذي يرجى ويخاف .

(وقال جابر) بن عبد الله ( وأبو هريرة ) رضي الله عنهما: ( هدايا الملوك غلول ) ، وظاهر سياقه أنه موقوف عليهما، وقد روي مرفوعا من حديث جابر ، أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو سعيد النقاش والرافعي في تاريخ قزوين بلفظ: هدايا الأمراء غلول وإسناده ضعيف، وأخرجه ابن جرير في التفسير بلفظ: هدية الأمراء غلول . وروي أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا، أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف بلفظ: هدايا الأمراء غلول .

وأخرجه أبو سعيد النقاش في كتاب الفرق بين القضاة العادلة والجائرة من طريق النضر بن شميل ، عن ابن عون عن ابن سيرين عنه، وإسناده أيضا ضعيف، قاله السبكي ، ولعله يعني من بين النقاش وابن سهيل كأحمد بن عمار ، أو محمد بن قطني ، أو غيرهما، والله أعلم .




الخدمات العلمية