الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثالث : أن يحبه لا لذاته بل لغيره ، وذلك الغير ليس راجعا إلى حظوظه في الدنيا ، بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة ، فهذا أيضا ظاهر لا غموض فيه وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه ؛ لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة فهذا ، من جملة المحبين في الله وكذلك من يحب تلميذه ؛ لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويرقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء ، إذ قال عيسى صلى الله عليه وسلم : من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء .

ولا يتم التعلم إلا بمتعلم فهو إذن آلة في تحصيل هذا الكمال فإن ، أحبه ؛ لأنه آلة له إذ جعل صدره مزرعة لحرثه الذي هو سبب ترقية إلى رتبة التعظيم في ملكوت السماء ، فهو محب في الله بل الذي يتصدق بأمواله لله ويجمع الضيفان ويطهي لهم الأطعمة اللذيذة الغريبة تقربا إلى الله فأجد ، طباخا لحسن صنعته في الطبخ فهو من جملة المحبين في الله وكذا لو أحب من يتولى له إيصال الصدقة إلى المستحقين فقد أحبه في الله بل تزيد على هذا ونقول إذا أحب من يخدمه بنفسه في غسل ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه ، ويفرغه بذلك للعلم أو العمل ومقصوده من استخدامه في هذه الأعمال الفراغ للعبادة فهو محب في الله بل نزيد عليه ونقول إذا أحب من ينفق عليه من ماله ويواسيه بكسوته وطعامه ومسكنه وجميع أغراضه التي يقصدها في دنياه ومقصوده من جملة ذلك الفراغ للعلم والعمل المقرب إلى الله فهو محب في الله .

فقد كان جماعة من السلف تكفل بكفايتهم جماعة من أولي الثروة وكان المواسي والمواسى جميعا من المتحابين في الله بل نزيد عليه ونقول : من نكح امرأة صالحة ليتحصن بها عن وسواس الشيطان يصون بها دينه أو ليولد منها له ولد صالح يدعو له وأحب زوجته لأنها آلة إلى هذه المقاصد الدينية ، فهو محب في الله .

ولذلك وردت الأخبار بوفور الأجر والثواب على الإنفاق على العيال حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته .

بل نقول : كل من استهتر بحب الله وحب رضاه وحب لقائه في الدار الآخرة ، فإذا أحب غيره كان محبا في الله لأنه لا يتصور أن يحب شيئا إلا لمناسبته لما هو محبوب عنده ، وهو رضا الله عز وجل بل أزيد على هذا ، وأقول : إذا اجتمع في قلبه محبتان ؛ محبة الله ومحبة الدنيا ، واجتمع في شخص واحد المعنيان جميعا حتى صلح لأن يتوسل ؛ به إلى الله وإلى الدنيا فإذا أحبه لصلاحه للأمرين ، فهو من المحبين في الله كمن يحب أستاذه الذي يعلمه الدين ويكفيه مهمات الدنيا بالمواساة في المال ، فأحبه من حيث إن في طبعه طلب الراحة في الدنيا والسعادة في الآخرة فهو ، وسيلة إليهما ، فهو محب في الله وليس من شرط حب الله أن لا يحب في العاجل حظا البتة إذ الدعاء الذي أمر به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فيه جمع بين الدنيا والآخرة ومن ، ذلك قولهم : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقال عيسى عليه السلام في دعائه اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ، ولا تجعل مصيبتي لديني ، ولا تجعل الدنيا أكبر همي فدفع شماتة الأعداء من حظوظ الدنيا ، ولم يقل : ولا تجعل الدنيا أصلا من همي ، بل قال : لا تجعلها أكبر همي .

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه : اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة .

وقال اللهم عافني من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة .

التالي السابق


(القسم الثالث: أن يحبه لا لذاته بل لغيره، وذلك الغير ليس راجعا إلى حظوظه الحاصلة في الدنيا ، بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة، فهذا أيضا لا غموض فيه) ولا دقة (وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه; لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل ومقصوده من) ذلك (العلم والعمل الفوز في الآخرة، وهذا من جملة المتحابين في الله) أي: معدود فيهم، (وكذلك من يحب تلميذه; لأنه يتلقف منه العلم) المفيد، أي: يتلقاه، (وينال بواسطته رتبة التعليم ويترقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السموات والأرض، إذ قال عيسى عليه السلام: من علم وعمل) بما علم (وعلم) غيره، (فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماوات) ، وقد تقدم في كتاب العلم، (ولا يتم التعليم إلا بمتعلم فهو) أي: التلميذ، (إذا آلة في تحصيل هذا الكمال، فإنه أحبه; لأنه آلة له إذ صدره مزرعة لحرثه الذي هو سبب رقيه) ، أي: عروجه (إلى رتبة العظمة في ملكوت السماء، فهو محب في الله) تعالى، (بل الذي يتصدق بأمواله لله) تعالى (ويجمع الضيفان) جمع ضيف، (ويهيئ لهم الأطعمة اللذيذة الغريبة) الشهية (تقربا إلى الله سبحانه، فأحب) لذلك (طباخا لحسن صنعته في الطبخ) لهؤلاء (فهو من جملة المحبين في الله) تعالى (وكذلك لو أحب من يتولى له إيصال الصدقة إلى [ ص: 186 ] المستحقين فقد أحبه في الله) تعالى (بل أزيد على هذا وأقول إذا أحب من يخدمه بنفسه في غسل ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه، ويفرغه بذلك للعلم والعمل ومقصوده من استخدامه في هذه الأعمال الفراغ للعبادة) ، والتخلي لها عن الشواغل (فهو محب في الله) تعالى، (بل أزيد على هذا وأقول إذا أحب من ينفق عليه ماله ويواسيه بكسوته وطعامه ومسكنه) يأوي فيه، (ويكفيه جميع أغراضه التي يقصدها في دنياه) من كفاية سائر المهمات، (ومقصوده من جملة ذلك الفراغ للعلم والعمل المقرب لله) تعالى: أي: التفرغ لتحصيلهما، (فهو محب في الله) تعالى، وظهر فيه تجلي اسمه المعين، (فقد كان جماعة من السلف) قد (تكفل بكفايتهم جماعة من أهل الثروة) ذي المال الكثير (وكان المواسي والمواسى جميعا من المتحابين في الله) تعالى، (بل نزيد على هذا ونقول: من نكح امرأة صالحة ليتحصن بها عن) طرد (وسواس الشيطان ويصون بها دينه) وعرضه، (وليولد له ولد صالح يدعو له) من بعده، (وأحب زوجته) تلك; (لأنها آلته في هذه المقاصد الشريفة الدينية، فهو محب في الله) تعالى، (ولذلك ورد في الأخبار وفور الأجر والثواب على الإنفاق على العيال حتى اللقمة) الواحدة (يضعها الرجل في في امرأته) تقدم في كتاب النكاح، (بل نقول: كل من اشتهر بحب الله وحب رضاه وحب لقائه في الدار الآخرة، فإذا) اتفق أنه (أحب غيره كان محبا في الله) تعالى; (لأنه لا يتصور أن يحب شيئا إلا لمناسبته لما هو محبوب عنده، وهو رضا الله) تعالى، (بل أزيد على هذا، وأقول: إذا اجتمع في قلبه محبتان; محبة الله ومحبة الدنيا، واجتمع في شخص واحد المعنيان جميعا حتى صلح; لأنه يتوصل به إلى الله) تعالى بهدايته وإرشاده (وإلى الدنيا) بإعانته ومساعدته (فإذا أحبه لصلاحه للأمرين، فهو من المحبين في الله) تعالى (كمن يحب أستاذه الذي يعلمه) أمور (الدين ويكفيه مهمات الدنيا بالمواساة في المال، فأحبه من حيث إن في طبعه طلب الراحة في الدنيا و) نيل (السعادة في الآخرة، وهي وسيلة إليهما، فهو المحب في الله) تعالى (وليس من شرط حب الله) تعالى (أن لا يحب في العاجل حظا البتة إذ الدعاء الذي أمر به الأنبياء) عليهم السلام (فيه جمع بين الدنيا والآخرة، فمن ذلك قولهم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) وقنا عذاب النار ، أخرجه البيهقي من حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في دعائه ، قال الحسن : الحسنة في الدنيا الزوجة الصالحة، وقد تقدم في كتاب العلم (وقال عيسى ) عليه السلام (في دعائه) فيما روي عنه (اللهم لا تشمت بي عدوي) أي: لا تفرح، والشماتة الفرح ببلية تنزل بالغير (ولا تسوء بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي) .

وقد وردت الاستعاذة من شماتة الأعداء عن نبينا صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي والحاكم من حديث ابن عمر مرفوعا كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو وشماتة الأعداء" . وعند الحاكم من حديث ابن مسعود : اللهم احفظني بالإسلام قائما وقاعدا وراقدا، ولا تشمت بي عدوا ولا حاسدا" . والجملتان الأخيرتان قد وردتا أيضا في جملة أدعيته صلى الله عليه وسلم، فأخرج الترمذي والحاكم من حديث ابن عمر مرفوعا: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك" . إلى آخره، وفيه: "لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا" . (فدفع شماتة الأعداء من حظوظ الدنيا، ولم يقل: ولا تجعل الدنيا أصلا من همي، بل قال: لا تجعل الدنيا أكبر همي) ، فإن ذلك سبب الهلاك، وفي مفهومه أن قليل الهم مما لا بد منه من أمر المعاش مرخص فيه، بل مستحب (وقال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه: اللهم إني [ ص: 187 ] أسألك رحمة) من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي وتصلح بها غائبي وترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتلهمني بها رشدي، وترد بها الفتن وتعصمني بها من كل سوء، اللهم: أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر ورحمة، (أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة) أي: علو القدر فيهما ورفع الدرجات، قال العراقي : رواه الترمذي من حديث ابن عباس في الحديث الطويل في دعائه بعد صلاة الليل، وقد تقدم اهـ .

قلت: وكذلك رواه محمد بن نصر في كتاب صلاة الليل والطبراني في الكبير، والبيهقي في الدعوات من طريق داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن جده، وقد مر ذلك في كتاب الأوراد بطوله، (وقال) صلى الله عليه وسلم: ( اللهم عافني من بلاء الدنيا وعذاب القبر ) .

قال العراقي : رواه أحمد من حديث بشر بن أبي أرطاة نحوه بسند جيد، انتهى، قلت: يشير إلى قوله: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، وقد رواه كذلك أحمد وابن حبان ، والطبراني . وبشر بن أبي أرطاة عامري قرشي مختلف في صحبته ولاه معاوية اليمن ، فأساء السيرة فيها، ونزل بآخرة خوفا من بني العباس بأفريقية بأهله وولده، وهم هناك اليوم بادية يعرفون بأولاد علي قال الهيثمي : رجال أحمد وأحد إسنادي الطبراني ثقات، والمراد ببلاء الدنيا وخزيها رزاياها ومصائبها، وغرورها وغدرها وهوانها، وفي الفائق هذا من جنس استغفار الأنبياء مما علموا أنه مغفور لهم. اهـ. ومما يشهد لهذا المقام أيضا ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي الحديث .




الخدمات العلمية