الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما حسن الخلق فقد جمعه علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال : يا بني إذا ، عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك وإن صحبته زانك وإن قعدت بك مؤنة مانك ، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها ، وإن رأى منك حسنة عدها ، وإن رأى سيئة سدها ، اصحب من إذا سألته أعطاك ، وإن سكت ابتداك ، وإن نزلت بك نازلة واساك ، اصحب من إذا قلت صدق قولك ، وإن حاولتما أمرا أمرك ، وإن تنازعتما آثرك فكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة وشرط أن يكون قائما بجميعها .

قال ابن أكثم قال المأمون فأين هذا ؟ فقيل له أتدري : لم أوصاه بذلك .

؟ قال : لا ، قال : لأنه أراد أن لا يصحب أحدا .

وقال بعض الأدباء : لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ويستر عيبك فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب وينشر حسنتك ويطوي سيئتك ، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك .

وقال علي رضي الله عنه .


إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك     ومن إذا ريب زمان صدعك
شتت فيه شمله ليجمعك

وقال بعض العلماء : لا تصحب إلا أحد رجلين : رجل تتعلم منه شيئا في أمر دينك فينفعك ، أو رجل تعلمه شيئا في أمر دينه فيقبل منك ، والثالث فاهرب منه وقال بعضهم : الناس أربعة : فواحد حلو كله فلا يشبع منه .

وآخر مر كله فلا يؤكل منه وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك ، وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط .

وقال جعفر الصادق رضي الله عنه لا تصحب خمسة الكذاب ؛ فإنك منه على غرور وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب والأحمق ، ؛ فإنك لست منه على شيء يريد أن ينفعك فيضرك .

والبخيل ؛ فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه والجبان ، ؛ فإنه يسلمك ويفر عند الشدة والفاسق ، ؛ فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها . فقيل وما أقل منها قال ؟ : الطمع فيها ثم لا ينالها .

وقال الجنيد لأن يصحبني فاسق حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ سيئ الخلق .

وقال ابن أبي الحواري : قال لي أستاذي أبو سليمان يا أحمد لا تصحب إلا أحد رجلين رجلا : ترتفق به في أمر دنياك أو رجلا تزيد معه وتنتفع به في أمر ، آخرتك ، والاشتغال بغير هذين حمق كبير .

وقال سهل بن عبد الله اجتنب صحبة ثلاثة من أصناف الناس : الجبابرة الغافلين ، والقراء المداهنين والمتصوفة ، الجاهلين .

واعلم أن هذه الكلمات أكثرها غير محيط بجميع أغراض الصحبة والمحيط ما ذكرناه من ملاحظة المقاصد ومراعاة الشروط بالإضافة إليها فليس ما يشترط للصحبة في مقاصد الدنيا مشروطا للصحبة في الآخرة والأخوة كما قال بشر الإخوان ثلاثة : أخ لآخرتك وأخ لدنياك وأخ لتأنس به .

التالي السابق


(وأما حسن الخلق فقد جمعه علقمة) بن عمرو بن الحصين [ ص: 201 ] (العطاردي) أبو الفضل الكوفي صدوق له غرائب، روى له ابن ماجه، مات سنة ست وخمسين (في وصيته لابنه لما حضرته الوفاة قال:) ولفظ القوت: وحدثونا عن إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا يحيى بن أكثم قال: حدثنا المأمون أمير المؤمنين فقلت له: حدثني سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن أبحر قال: لما حضرت علقمة العطاردي الوفاة دعا بابنه فقال: (يا بني، إن عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك وإن صحبته زانك وإن قعدت بك مؤنة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت قولا صدق قولك، وإن حاولتما أمرا آمرك، وإن تنازعتما آثرك) .

قال المصنف: زيادة على صاحب القوت (وكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة وشرط أن يكون قائما بجميعها) ثم قال صاحب القوت: (قال ابن أكثم) هو أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن التميمي المرفدي القاضي المشهور، فقيه صدوق إلا أنه رمي بسرقة الحديث ولم يقع ذلك له، وإنما كان يرى الرواية بالإجازة والإجادة، روى له الترمذي، مات سنة ثلاث وأربعين عن ثلاث وثمانين سنة .

(قال المأمون) يعني أمير المؤمنين عبد الله بن هارون (فأين هذا؟ فقيل له: تدري لم أوصاه بذلك؟ قال: لا، قال: لأنه أراد لا يصحب أحدا) أي: لأنه لا يجده جامعا لهذه الأوصاف، وتروى هذه الوصية بلفظ آخر: لا تصحب من الناس إلا من إن افتقرت قرب منك، وإن استغنيت لم يطمع فيك، وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك، وإن ابتذلت له صانك، وإن احتجت إليه عانك، وإن اجتمعت معه زانك، فإن لم تجد هذا فلا تصحب أحدا .

(وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من) كان على هذا الوصف (يكتم سرك ويستر عيبك ويكون معك في النوائب) أي: الشدائد (ويؤثرك بالرغائب وينشر حسنتك ويطوي سيئتك، فإن لم تجد فلا تصحب إلا نفسك) أي: اعتزل عنهم، نقله صاحب القوت قال: وقد أنشدنا بعض العلماء لبعض الأدباء:


وندمان أخي ثقة كأن حديثه خبره يسرك حسن ظاهره
وتحمد منه مختبره يساعد خله كرما
وفي أخلاقه أثره ويطوي سره أبدا
وحسنا إن طوى نشره ويستر عيب صاحبه
ويستر أنه ستره



(وقال علي -رضي الله عنه-) ولفظ القوت: وروينا عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- في وصف الأخ كلاما (رجزا) جامعا مختصرا:


( إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت شمل نفسه ليجمعك )



ويروى "إن أخاك الصدق" بدل "الحق" و"شتت فيك شمله" ومنهم من نسبه للإمام الشافعي (وقال بعض العلماء: لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئا من أمر دينك فينفعك، أو رجل تعلمه شيئا من أمر دينه فيقبل منك، والثالث فاهرب منه) نقله صاحب القوت، ومثله قول أبي الدرداء: كن عالما أو متعلما ولا تكن ثالثا فتهلك، (وقال بعضهم: الناس أربعة: فواحد حلو كله فلا تشبع منه) ولفظ القوت: فهذا لا يشبع منه (وآخر مر كله فلا تأكل منه) ولفظ القوت: فهذا لا يؤكل منه (وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط) ولفظ القوت: فخذ منه إذا احتجت إليه .

(وقال جعفر الصادق) : ولفظ القوت: وروينا عن جعفر بن محمد الصادق قال: قال محمد بن علي: يا بني (لا تصحب) ولفظ القوت: لا تصحبن من الناس (خمسة) : الأول (الكذاب؛ فإنك منه على غرور وهو مثل السراب) الذي يلمع من حر الشمس، فيرى أنه ماء وليس كذلك (يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، و) الثاني: [ ص: 202 ] (الأحمق؛ فإنك لست منه على شيء يريد أن ينفعك فيضرك و) الثالث: (البخيل؛ فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، و) الرابع: (الجبان؛ فإنه يسلمك ويفر عند الشدة، و) الخامس: (الفاسق؛ فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها. فقيل) ولفظ القوت: قلت: (وما أقل منها؟ فقيل: الطمع فيها ثم لا ينالها) . وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن علي بن حبيش، حدثنا أحمد بن يوسف بن الضحاك حدثنا محمد بن يزيد حدثنا محمد بن عبد الله القرشي حدثنا محمد بن عبد الله الزبيدي عن أبي حمزة الثمالي حدثني أبو جعفر محمد بن علي قال: أوصاني أبي فقال: لا تصحبن خمسا تحادثهم ولا ترافقهم في الطريق، قال: قلت: جعلت فداك يا أبت، من هؤلاء الخمسة؟ قال: لا تصحبن فاسقا؛ فإنه يبيعك بأكلة فما دونها، قال: قلت: يا أبت فما دونها؟ قال: يطمع فيها ثم لا ينالها، قال: قلت: يا أبت ومن الثاني؟ قال: لا تصحبن البخيل؛ فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه، قال: يا أبت ومن الثالث؟ قال: لا تصحبن كذابا؛ فإنه بمنزلة السراب يبعد منك القريب ويقرب منك البعيد، قلت: يا أبت ومن الرابع؟ قال: لا تصحبن أحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، قال: قلت: يا أبت، ومن الخامس؟ قال: لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله تعالى في ثلاث مواضع.

(وقال) أبو القاسم (الجنيد) قدس سره (لأن يصحبني فاسق حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ) أي: فقيه (سيئ الخلق) . نقله صاحب القوت (وقال) أحمد (بن أبي الحواري: قال لي أستاذي أبو سليمان) الدارني -رحمه الله تعالى- (يا أحمد لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل ترتفق به في دنياك، أو رجل تريد بصحبته المنفعة في آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير) نقله صاحب القوت .

(وقال) أبو محمد (سهل بن عبد الله) التستري -رحمه الله تعالى- (اجتنب صحبة ثلاثة من أصناف الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفين الجاهلين) نقله صاحب القوت، والمراد بالجبابرة الظلمة، ووصفهم بالغافلين لغفلتهم عن الله تعالى، وهو وصف لازم لهم، وأراد بالقراء المداهنين العلماء المخالطين لأهل الأموال فيصانعونهم بالمداهنة في الأعمال، وأراد بالمتصوفة الجاهلين المتزيين بزي أهل الله وهم جاهلون في السلوك، فهؤلاء مضرتهم أكثر من منفعتهم .

(واعلم أن هذه الكلمات أكثرها غير محيط بجميع أغراض الصحبة و) إنما (المحيط ما ذكرناه من ملاحظة المقاصد ومراعاة الشروط بالإضافة إليها فليس ما يشترط للصحبة في مقاصد الدنيا مشروطا في) مقاصد (الصحبة للآخرة كما قال شقيق) البلخي -رحمه الله تعالى- (الإخوان ثلاثة: أخ لآخرتك وأخ لدنياك وأخ لتأنس به) هذا الكلام لم أجده في ترجمة شقيق في الحلية ولا في غيرها، والذي في القوت: وقال بشر بن الحارث: يكون للرجل ثلاثة إخوان: أخ لآخرته وأخ لدنياه وأخ يأنس به. فأخبره أن أخ المؤانسة قد لا يكون متقربا عابدا وإن الأنس مخصوص يقال: لا يوجد في كريم، وكان يوسف بن أسباط يعزز من فيه أنس من الإخوان، فكان يقول: ما في المصيصة ثلاثة يؤنس بهم .




الخدمات العلمية