الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوي والعيوب ولو ظهر له منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه ؛ فما أبعده إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له ولا يعزم عليه لأجله ، وويل له في نص كتاب الله تعالى حيث قال : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية .

ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن وهو الحقد والحسد فإن الحقود الحسود يملأ باطنه بالخبث ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالا وإذا ، وجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء ويترشح الباطن بخبثه الدفين .

ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى قال بعض الحكماء : ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد ولا يزيد لطف الحقود إلا وحشة منه ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف وأمره مخطر وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله .

وقد روى عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أنه قال : كنت باليمن ولي جار يهودي يخبرني عن التوراة فقدم علي اليهودي من سفر ، فقلت : إن الله قد بعث فينا نبيا فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا وقد أنزل علينا كتابا مصدقا للتوراة ، فقال اليهودي : صدقت ولكنكم لا تستطيعون أن تقوموا بما جاءكم به إنا نجد نعته ونعت أمته في التوراة إنه لا يحل لامرئ أن يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم .

التالي السابق


(واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أنس: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أي: لا يتم إيمانه (وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله) أي: نفسه (به ولا يشك أنه) أي: أخاه المؤمن (ينتظر منه ستر العورة والسكوت عن المساوئ والعيوب) والفضائح (ولو ظهر له منه بعض ما يكرهه ونقيض ما) كان (ينتظره) منه (اشتد عليه غضبه وغيظه؛ فما أبعده) عن الإنصاف (إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له ولا يعزم عليه لأجله، وويل له في نص كتاب الله تعالى حيث قال : ويل للمطففين الآية) إلى آخرها، وهو قوله : الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون والويل: كلمة تحسر وتحزن، وقيل: اسم واد في جهنم؛ فكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية (فأقل درجاته التساوي) كما قال الحريري:


وكلت للنحل كما كال لي على وفاء الكيل أو بخسه

(ومنشؤ التقصير في ستر العورة والسعي في كشفها الداء الدفين في الباطن وهو الحقد) المستكن في القلب (والحسد فإن الحسود والحقود يمتلئ باطنه بالخبث ولكنه يحبسه في باطنه ويخفيه) عن الإظهار (ولا يبديه) لأخيه (مهما لم يجد له مجالا، فإذا وجد الفرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء) وظهر المخبأ (وترشح الباطن بخبثه الدفين) المستكن (ومهما انطوى على حقده وحسده) وعلم من تلمسه ذلك (فالانقطاع أولى) وبهذا السبب انقطع جماعة من الصالحين عن إخوانهم وكانوا إذا سئلوا عن سبب الانقطاع يقولون: ما كل ما يعلم يقال، وليس كل عذر يبدى (قال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد ولا يزيد لطف الحسود إلا وحشة منه) ، ولفظ القوت: ولا يزيدك لطفا الحقود إلا وحشة منه (ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف وأمره مخطر وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله تعالى، وقد روى عبد الرحمن بن جبير عن أبيه) .

ولفظ القوت: وقد روي: ينافس الحقد عن الإخوان لفظة شديدة، وهو ما حدثونا عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قلت: عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي يكنى أبا حميد، ويقال: أبا حمير، وروى عن أبيه جبير بن نفير وعن صفوان بن عمر وعنه أبو حمزة عيسى بن سليم ومحمد بن الوليد الزبيدي ومعاوية بن صالح بن جرير الحضرمي ويحيى بن جابر الطائي ويزيد بن ضمير، قال أبو زرعة والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، مات سنة ثماني عشرة ومائة في خلافة هشام، روى له الجماعة إلا البخاري، وأما أبوه فإنه يكنى أبا عبد الرحمن ويقال له: أبو عبد الله الشامي حمصي أدرك زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وروى عنه مرسلا، وهو من كبار تابعي أهل الشام مات سنة خمس وسبعين، روى له الجماعة إلا البخاري (أنه قال: كنت باليمين ولي جار يهودي يخبرني عن التوراة فقدم علي اليهودي) ولفظ القوت: فقدم علينا (يهودي من سفر، فقلت: إن الله) تعالى (قد بعث فينا نبيا فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا وقد نزل علينا كتابا مصدقا للتوراة، فقال اليهودي: صدقت ولكنكم لا تستطيعون أن تقوموا بما جاءكم به إنا نجد نعته ونعت أمه في التوراة [ ص: 216 ] إنه لا يحل لامرئ) يعني منهم (أن يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم) هكذا أورده صاحب القوت .




الخدمات العلمية