الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفي الاحتجاج بهذه الأحاديث نظر فأما قوله لعبد الله بن عامر فلا يمكن تنزيله إلا على ما عرفه صلى الله عليه وسلم بنور النبوة من حاله وإن لزوم البيت كان أليق به وأسلم له من المخالطة فإنه لم يأمر جميع الصحابة بذلك ورب شخص تكون سلامته في العزلة لا في المخالطة كما قد تكون سلامته في القعود في البيت وأن لا يخرج إلى الجهاد .

وذلك لا يدل على أن ترك الجهاد أفضل .

وفي مخالطة الناس مجاهدة ومقاساة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم .

وعلى هذا ينزل قوله صلى الله عليه وسلم رجل معتزل يعبد ربه ويدع الناس من شره فهذا إشارة إلى شرير بطبعه تتأذى الناس بمخالطته .

وقوله : إن الله يحب التقي الخفي إشارة إلى إيثار الخمول وتوقي الشهرة .

وذلك لا يتعلق بالعزلة فكم من راهب معتزل تعرفه كافة الناس وكم من مخالط خامل لا ذكر له ولا شهرة ، فهذا تعرض لأمر لا يتعلق بالعزلة .

واحتجوا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : ألا أنبئكم بخير الناس ? قالوا : بلى يا رسول الله : فأشار بيده نحو المغرب وقال : رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ينتظر أن يغير أو : يغار عليه ألا أنبئكم بخير الناس بعده وأشار بيده نحو الحجاز وقال : رجل في غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعلم حق الله في ماله اعتزل شرور الناس .

فإذا ظهر أن هذه الأدلة لا شفاء فيها من الجانبين فلا بد من كشف الغطاء بالتصريح بفوائد العزلة وغوائلها ومقايسة بعضها بالبعض ليتبين الحق فيها .

التالي السابق


(وفي الاحتجاج بهذه الأحاديث نظر فأما قوله -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 340 ] لعبد الله بن عامر) كذا في النسخ، وعند العراقي لعقبة بن عامر (فلا يمكن تنزيله إلا على ما عرفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنور النبوة) وصدق الفراسة من حاله (فإن لزم البيت كان أليق به وأسلم) عاقبة (له من هذه المخالطة) المفضية إلى المتاعب، وهو -صلى الله عليه وسلم- حكيم بأحوال أمته (فإن لم يأمر جميع الصحابة بذلك فرب شخص تكون سلامته في العزلة) عن الناس (لا في المخالطة) معهم (كما تكون سلامته في القعود في البيت وألا يخرج إلى الجهاد) مع الكفار (وذلك لا يدل على أن ترك الجهاد أفضل، وفي مخالطة الناس مجاهدة ومقاساة) شدائد (ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير) وفي رواية أفضل (من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) .

قال العراقي: رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر ولم يسم الترمذي الصحابي، قال عن شيخ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والطريق واحد اهـ .

قلت: ورواه كذلك أحمد والبخاري في الأدب المفرد وفي فتح الباري إسناده حسن .

(وعلى هذا ينزل قوله -صلى الله عليه وسلم- رجل معتزل) في شعب من الشعاب (يعبد ربه ويدع الناس من شره فهذه إشارة إلى شرير) أي: رجل كثير الشر والفساد (بطبعه) وجبلته (يتأذى الناس بمخالطته) لشره (وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يحب) العبد (التقي) الغني (الخفي إشارة إلى إيثار الخمول وتوقي الشهرة) عند الناس (وذلك لا يتعلق بالعزلة فكم من راهب) عابد (معتزل) عن الناس (يعرفه كافة الناس) أي: جميعهم (وكم من مخالط) بالناس (خامل) بينهم (لا ذكر له ولا شهرة، فهذا تعرض لأمر لا يتعلق بالعزلة، واحتجوا بما روي عنه -صلى الله عليه وسلم-) أنه (قال لأصحابه: ألا أنبئكم بخير الناس؟ قالوا: بلى) يا رسول الله (قال: فأشار بيده نحو المغرب فقال: رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله فينتظر أن يغير) على العدو (أي: يغار عليه) فهو متيقظ غير غفول (ألا أنبئكم بخير الناس بعده) قالوا: بلى يا رسول الله قال (وأشار بيده نحو الحجاز فقال: رجل في غنيمة) بالتصغير أي: القطعة من غنم (يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة) المفروضة في غنمه (ويعلم حق الله في ماله) للسائل والمحروم (واعتزل) شرور (الناس) .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث أم مبشر إلا أنه قال: نحو المشرق، بدل نحو المغرب. وفيه ابن إسحاق، رواه بالعنعنة وللترمذي والنسائي نحوه مختصرا من حديث ابن عباس، قال الترمذي: حديث حسن اهـ .

قلت: ورواه الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: خير الناس في الفتن رجل أخذ بعنان فرسه خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه أو رجل معتزل في بادية يؤدي حق الله الذي عليه. ورواه نعيم بن حماد في الفتن عن طاوس مرسلا ورواه البيهقي في الشعب من حديث أم مبشر بلفظ: خير الناس منزلة رجل على متن فرسه يخيف العدو ويخيفونه. ورواه أحمد والطبراني من حديث أم مالك البهزية بلفظ: خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه، ورجل أخذ برأس فرسه في سبيل الله ليخيف العدو ويخيفونه.

(فإذا ظهر أن هذه الأدلة لا شفاء فيها من الجانبين) لما عرفت (فلا بد من كشف الغطاء) عن وجه الحق (بالتصريح بفوائد العزلة وغوائلها ومقايسة بعضها ببعض ليتبين الحق فيها إن شاء الله) بمنه وعونه .




الخدمات العلمية