الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكل من ينقل هفوات الأئمة فهذا مثاله أيضا .

ومما يدل على سقوط وقع الشيء عن القلب بسبب تكرره ومشاهدته أن أكثر الناس إذا رأوا مسلما أفطر في نهار رمضان استبعدوا ذلك منه استبعادا يكاد يفضي إلى اعتقادهم كفره وقد يشاهدون من يخرج الصلوات عن أوقاتها ولا تنفر عنه طباعهم كنفرتهم عن تأخير الصوم مع أن صلاة واحدة يقتضي تركها الكفر عند قوم وحز الرقبة عند قوم وترك صوم رمضان كله لا يقتضيه ولا سبب له إلا أن الصلاة تتكرر والتساهل فيها مما يكثر فيسقط وقعها بالمشاهدة عن القلب .

ولذلك لو لبس الفقيه ثوبا من حرير أو خاتما من ذهب أو شرب من إناء فضة استبعدته النفوس واشتد إنكارها وقد يشاهد في مجلس طويل لا يتكلم إلا بما هو اغتياب للناس ولا يستبعد منه ذلك .

والغيبة أشد من الزنا فكيف لا تكون أشد من لبس الحرير ؟! ولكن كثرة سماع الغيبة ومشاهدة المغتابين أسقط وقعها عن القلوب وهون على النفس أمرها فتفطن لهذه الدقائق وفر من الناس فرارك من الأسد لأنك لا تشاهد منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا وغفلتك عن الآخرة ويهون عليك المعصية ويضعف رغبتك في الطاعة .

فإن وجدت جليسا يذكرك الله رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه واغتنمه ولا تستحقره ، فإنها غنيمة العاقل وضالة المؤمن .

وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة ، وأن الوحدة خير من الجليس السوء .

ومهما فهمت هذه المعاني ولاحظت طبعك والتفت إلى حال من أردت مخالطته لم يخف عليك أن الأولى التباعد بالعزلة أو التقرب إليه بالخلطة .

وإياك أن تحكم مطلقا على العزلة أو الخلطة بأن إحداهما أولى إذ كل مفصل فإطلاق القول فيه بلا أو نعم خلف من القول محض ولا حق في المفصل إلا التفصيل .

التالي السابق


(وكل من ينقل هفوات الأئمة) المقتدى بهم (فهذا مثاله أيضا ومما يدل على سقوط وقع الشيء عن القلب بسبب تكرره ومشاهدته أن أكثر الناس إذا رأوا مسلما أفطر في نهار رمضان [ ص: 353 ] استبعدوه استبعادا يكاد يفضي إلى اعتقادهم كفره) ويقيمون النكير عليه (وقد يشاهدون من يضيع الصلاة) المفروضة (حتى تخرج عن أوقاتها) وهم يشاهدون من يخرج الصلوات عن أوقاتها (فلا ينفر عنها طباعهم كنفرتهم عن تأخير الصوم مع أن صلاة واحدة يقتضي تركها الكفر عند قوم) نظرا لظاهر الخبر: من ترك الصلاة عامدا متعمدا فقد كفر (وجز الرقبة عند قوم) اعلم أنهم أجمعوا على أن من وجبت عليه الصلاة من المخاطبين بها ثم امتنع منها ليس جاحدا لوجوبها، فقال مالك والشافعي وأحمد يقتل إجماعا منهم، وقال أبو حنيفة: يحبس أبدا من غير قتل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يحل دم امرئ إلا لإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق. وهذا مؤمن لأنه مصدق بقلبه غير جاحد بلسانه.

ثم اختلف موجبو قتله بعد ذلك، فقال مالك والشافعي: يقتل حدا، وقال ابن حبيب من أصحاب مالك: يقتل كفرا، واختلفوا أيضا كيف يقتل، فقال أبو إسحاق الشيرازي: ضربا بالسيف، وقال ابن سريج: ينخس به أو يضرب بالخشب حتى يصلي أو يموت. وقال أحمد: من ترك الصلاة متهاونا وكسلا وهو غير جاحد وجوبها فإنه يقتل بالسيف رواية واحدة وهل حدا أو كفرا؟ روايتان، اختيار الجمهور ومن أصحابه أنه لكفره كالمرتد (وترك صوم رمضان كله لا يقتضيه) أي: الكفر ولا تحز الرقبة (ولا سبب إلا أن الصلاة تتكرر) في الأوقات الخمسة (والتساهل فيها مما يكثر فيسقط وقعها بالمشاهدة عن القلب) بخلاف الصوم، (ولذلك لو لبس الفقيه) العالم المشار إليه (ثوبا حريرا وخاتما من الذهب أو شرب من إناء فضة) أو أمثال ذلك (استبعدته النفوس) جدا (واشتد إنكارها) عليه ذلك (وقد يشاهد في مجلس طويل لا يتكلم) فيه (إلا بما هو اغتياب للناس) وأكل لحومهم وهم يستمعون (ولا يستبعد منه ذلك) ولا ينكر عليه (والغيبة أشد من الزنا فكيف لا تكون أشد من لبس الحرير؟!) وما أشبهه (ولكن كثرة مشاهدة سماع الغيبة والمغتابين أسقط عن القلوب وقعها وهون على النفوس أمرها فتفطن لهذه الدقائق وفر من الناس فرارك من الأسد) أي: عن خلطتهم كما تفر من عدوك (فإنك لا تشاهد منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا وغفلتك عن الآخرة ويهون عليك المعصية ويضعف رغبتك في الطاعة، فإن وجدت جليسا) صالحا (تذكرك بالله رؤيته وسيرته فالزمه) واعقد قلبك على خلطته (ولا تفارقه واغتنمه ولا تستحقره، فإنها غنيمة العاقل وضالة المؤمن) كما يشير إليه قول سيدنا عمر -رضي الله عنه- على ما تقدم، وقول الشاعر:


وإذا صفا لك من زمان واحد نعم الزمان ونعم ذاك الواحد



(وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة، وأن الوحدة خير من الجليس السوء) وقد روي مرفوعا من حديث أبي ذر: الوحدة خير من جليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة، وإملاء الخير خير من الصمت، والصمت خير من إملاء الشر، أخرجه الحاكم وأبو الشيخ والعسكري والبيهقي ورواه الديلمي من حديث أبي هريرة (ومهما فهمت هذه المعاني ولاحظت طبعك والتفت إلى حال من أردت مخالطته لم يخف عليك أن الأولى التباعد عنه بالعزلة أو التقرب إليه بالخلطة وإياك أن تحكم مطلقا على العزلة أو الخلطة أن أحدهما أولى) من الآخر (إذ كل مفصل) أي: قابل للتفصيل (فإطلاق القول فيه بنعم أو لا) أي: بالنفي أو الإثبات (خلف) من القول (محض ولا حق في المفصل إلا التفصيل) فيعطي كل ذي حق حقه .




الخدمات العلمية