الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الفائدة الرابعة .

الخلاص من شر الناس فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة ومرة بسوء الظن والتهمة بالاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها وتارة بالنميمة أو الكذب ، فربما يرون منك من الأعمال أو الأقوال ما لا تبلغ عقولهم كنهه فيتخذون ذلك ذخيرة عندهم يدخرونها لوقت تظهر فرصة للشر فإذا اعتزلتهم استغنيت من التحفظ عن جميع ذلك؛ .

ولذلك قال بعض الحكماء لغيره أعلمك : بيتين خير من عشرة آلاف درهم : ما هما؟ قال:


اخفض الصوت إن نطقت بليل والتفت بالنهار قبل المقال     ليس للقول رجعة حين يبدو
بقبيح يكون أو بجمال

ولا شك أن من اختلط بالناس وشاركهم في أعمالهم لا ينفك من حاسد وعدو يسيء الظن به ويتوهم أنه يستعد .

لمعاداته ونصب المكيدة عليه وتدسيس غائلة وراءه فالناس مهما اشتد حرصهم على أمر يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم وقد اشتد حرصهم على الدنيا فلا يظنون بغيرهم إلا الحرص عليها قال المتنبي .


إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه     وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته     فأصبح في ليل من الشك مظلم

وقد قيل : معاشرة الأشرار تورث سوء الظن بالأبرار .

وأنواع الشر الذي يلقاه الإنسان من معارفه وممن يختلط به كثيرة ولسنا نطول بتفصيلها ففيما ذكرناه إشارة إلى مجامعها وفي العزلة خلاص من جميعها .

وإلى هذا أشار الأكثر ممن اختار العزلة . فقال أبو الدرداء أخبر تقله يروى مرفوعا .

وقال الشاعر:


من حمد الناس ولم يبلهم     ثم بلاهم ذم من يحمد
وصار بالوحدة مستأنسا يوحشه الأقرب والأبعد

وقال عمر رضي الله عنه : في العزلة راحة من القرين السوء .

التالي السابق


(الفائدة الرابعة)

الخلاص من شر الناس عند المخالطة (فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة ومرة بسوء الظن والتهمة) بالباطل (ومرة بالاقتراحات) التي يقترحونها عليك (والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها) غالبا (وتارة بالنميمة أو الكذب، فربما يرون منك من الأعمال والأقوال ما لا تبلغ عقولهم كنهه) ولا يدركون غوره (فيدخرون ذلك ذخيرة عندهم لوقت تظهر فيه فرصة الشر) فيظهرون ذلك المخبأ ويجعلونه أساسا فيبنون عليه الملام والطعن والإيلام .

(فإذا اعتزلتهم استغنيت عن التحفظ عن جميع ذلك؛ ولذلك قال بعض الحكماء لغيره: احفظ بيتين) وفي نسخة: (ثنتين هما خير لك من عشرة آلاف درهم قال: ما هما؟ قال:


اخفض الصوت إن نطقت بليل والتفت بالنهار قبل المقال)



أي: إذا تكلمت بالليل فاخفض صوتك لئلا يسمعك من لا تراه فينقل عنك ما يجر إليك الضرر، ومنه المثل: الحيطان لها آذان، وإذا تكلمت بالنهار فالتفت يمينا وشمالا لئلا يسمعك من لا تحبه فإن الكلام أمانة، ومنه الخبر: إذا تكلم أحدكم فالتفت فهي أمانة، وقد تقدم .


(ليس للقول رجعة حين يبدو بقبيح يكون أو بجمال)



أي: إن القول إذا خرج منك فإنه لا يعود سواء كان قبيحا أو جميلا فتندم على خروجه منك حيث لا ينفع الندم، فكن متيقظا قبل خروجه منك (ولا شك أن من اختلط بالناس وشاركهم في أعمالهم لم ينفك من حاسد) يحسده (وعدو يسيء الظن به ويتوهم) في نفسه (أنه يستعد لمعاداته أو لنصب المكيدة عليه) أي: الحيلة التي توقع في الكيد (وتدليس غائلة وراءه) أي: تهيئة مصيبة من خفية (فالناس مهما اشتد حرصهم على أمر يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم) قاتلهم الله (وقد اشتد حرصهم على الدنيا فلا يظنون بغيرهم إلا الحرص عليها) فيعادونك لأجل ذلك .

(وقيل) قائله هو أحمد بن الحسين المتنبي الشاعر المشهور:


(إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم)
(وعادى محبيه بقول عداته وأصبح في ليل من الشك مظلم)

[ ص: 357 ] يقول: تصديق الأوهام الفاسدة مما يعتاد عليها هو من سوء الظن بالناس المكتسب من سوء الفعل بسبب معاشرة الأشرار، فهو يسمع كل قول ويصدقه ولو في حبيبه، ويتبع كل هيعة فيطير إليها فهو أبدا بذلك في شك مظلم يمسي فيه ويصبح (وقد قيل: معاشرة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار) يروى ذلك من قول علي -رضي الله عنه- ومنه أخذ المتنبي قوله المذكور (وأنواع الشرور التي يلقاها الإنسان من معارفه ومن يختلط به) من أصحابه (لسنا نطيل القول بتفصيلها وفيما ذكرناه إشارة إلى مجامعها) ورءوسها (وفي العزلة خلاص من جميعها وإلى هذا أشار أكثر من اختار العزلة على الخلطة .

فقال أبو الدرداء) -رضي الله عنه- (اخبر) بضم الهمزة أمر من خبره إذا جربه (تقله) بفتح اللام وكسرها معا من قلاه يقلاه ويقليه قلى وقلى إذا أبغضه، قال الجوهري: إذا فتحت مدت، وتقلى لغة طيئ، يقول: جرب الناس فإنك إذا جربتهم قليتهم وتركتهم لما يظهر لك من بواطن سرائرهم. لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر؛ أي: من جربهم وخبرهم أبغضهم وتركهم، والهاء في تقله للسكت، ونظم الحديث وجدت الناس مقولا فيهم هذا هذا القول، ويروى ذلك مرفوعا رواه أبو يعلى في مسنده والعسكري في الأمثال والطبراني في الكبير ثلاثتهم من طريق بقية بن الوليد عن أبي بكر أبي مريم عن عطية المذبوح، ثم اتفقوا وعن أبي الدرداء رفعه به .

وكذا أخرجه ابن عدي في كامله من جهة بقية بلفظ: وجدت الناس اخبر تقله. ورواه الحسين بن سفيان ومن طريقه أبو نعيم في الحلية من طريق بقية أيضا باللفظ الأول لكنه قال: عن أبي عطية المذبوح، ورواه الطبراني في الكبير والعسكري في الأمثال من حديث أبي حيوة شريح بن يزيد عن أبي بكر بن أبي مريم عن سعيد بن عبيد الله الأفطس وسفيان بن المذبوح كلاهما عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ثق بالناس رويدا، ويقول: اخبر تقله. وكلها ضعيفة، فابن أبي مريم وبقية ضعيفان .

ورواه العسكري من حديث مؤثرة بن محمد حدثناه سفيان عن سعيد بن حسان عن مجاهد: وجدت الناس كما قيل: اخبر من شئت تقله (وقال الشاعر:


من حمد الناس ولم يبلهم )

أي: من شكرهم قبل أن يختبرهم

(ثم بلاهم ذم من يحمد)

أي: ثم اختبرهم قلب حمده ذما لما يظهر له من بواطن أسراره وخبث أفعاله

(وصار بالوحدة مستأنسا يوحشه الأقرب والأبعد

وقال عمر-رضي الله عنه-: في العزلة راحة من الخليط السوء) .

وقد ترجم البخاري في الصحيح: العزلة راحة من خلاط السوء، وذكر حديث أبي سعيد مرفوعا: ورجل يعبد في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره.




الخدمات العلمية