الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الفائدة الثالثة .

التأديب والتأدب ونعني به الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات .

وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه ولم تذعن لحدود الشرع شهواته ولهذا انتدب خدام الصوفية في الرباطات فيخالطون الناس بخدمتهم وأهل السوق للسؤال منهم كسرا لرعونة النفس واستمدادا من بركة دعاء الصوفية المنصرفين بهممهم إلى الله سبحانه .

وكان هذا هو المبدأ في الأعصار الخالية والآن قد خالطته الأغراض الفاسدة ومال ذلك عن القانون كما مالت سائر شعائر الدين فصار يطلب من التواضع بالخدمة التكثير بالاستتباع والتذرع إلى جمع المال والاستظهار بكثرة الأتباع فإن كانت النية هذه فالعزلة خير من ذلك ولو إلى القبر وإن كانت النية رياضة النفس فهي خير من العزلة في حق المحتاج إلى الرياضة وذلك مما يحتاج إليه في بداية الإرادة فبعد حصول الارتياض ينبغي أن يفهم أن الدابة لا يطلب من رياضتها عين رياضتها بل المراد منها أن تتخذ مركبا يقطع به المراحل ويطوى على ظهره الطريق والبدن مطية للقلب يركبها ليسلك بها طريق الآخرة وفيها شهوات إن لم يكسرها جمحت به في الطريق فمن اشتغل طول العمر بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمر الدابة برياضتها ولم يركبها فلا يستفيد منها إلا الخلاص في الحال في عضها ورفسها ورمحها وهي لعمري فائدة مقصودة ولكن مثلها حاصل في البهيمة الميتة وإنما تراد الدابة لفائدة تحصل من حياتها فكذلك الخلاص من ألم الشهوات في الحال يحصل بالنوم والموت ولا ينبغي أن يقنع به كالراهب الذي قيل له يا راهب فقال : ما أنا راهب إنما أنا كلب عقور حبست نفسي حتى لا أعقر الناس وهذا حسن بالإضافة إلى من يعقر الناس ولكن لا ينبغي أن يقتصر عليه فإن من قتل نفسه أيضا لم يعقر الناس بل ينبغي أن يتشوف إلى الغاية المقصودة بها .

ومن فهم ذلك واهتدى إلى الطريق وقدر على السلوك استبان له أن العزلة أعون له من المخالطة .

فأفضل لمثل هذا الشخص المخالطة أولا والعزلة آخرا .

وأما التأديب فإنما نعني به أن يروض غيره وهو حال شيخ الصوفية معهم فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم وحاله حال المعلم وحكمه ويتطرق إليه من دقائق الآفات والرياء ما يتطرق إلى نشر العلم إلا أن مخايل طلب الدنيا من المريدين الطالبين للارتياض أبعد منها من طلبه العلم ولذلك يرى فيهم قلة وفي طلبة العلم كثرة .

فينبغي أن يقيس ما تيسر له من الخلوة بما تيسر له من المخالطة وتهذيب القوم وليقابل أحدهما بالآخر وليؤثر الأفضل وذلك يدرك بدقيق الاجتهاد ويختلف بالأحوال والأشخاص فلا يمكن الحكم عليه مطلقا بنفي ولا إثبات .

التالي السابق


(الفائدة الثالثة التأديب والتأدب)

(ونعني به الارتياض لمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم) وجفاهم (كسرا للنفس) الأمارة [ ص: 367 ] (وقهر الشهوات) ورد عللها (وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة) والمعاشرة (وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب بعد أخلاقه) بالتهذيب الشرعي (ولم تذعن) أي: تنقد (لحدود الشرع شهواته) النفسية (ولهذا انتدب خدام الصوفية في الرباطات) والنكايا (فيخاطبون الناس لخدمتهم و) يخالطون (أهل السوق للسؤال منهم) فيمدون أياديهم ويقولون شيئا لله (كسر الرعونة النفس واستمداد من بركة دعاء الصوفية المنصرفين بهم مهم إلى الله تعالى وكان هذا هو المبدأ في الأعصار الخالية) أي: الماضية (و) أما (الآن خالطته الأغراض الفاسدة) السقيمة (ومال ذلك عن القانون المستقيم كما مال سائر شعائر الدين) عن محور استقامته (فصار من المطلوب التواضع بالخدمة التكبر بالاستتباع والتذرع) أي: التوسل (إلى جمع المال والاستظهار بكثرة الأتباع) والحشم (فكانت النية هذا فالعزلة خير منه ولو في آخر العمر) وفي نسخة إلى القبر .

(وإن كانت النية رياضة النفس فهي خير من العزلة في حق المحتاجين إلى الرياضة وذلك مما يحتاج إليه بالإرادة) أي: بعد السلوك (فبعد حصول الارتياض ينبغي أن يفهم أن الدابة لا يطلب من رياضتها عين رياضتها بل المراد منها أن تتخذ مركبا تقطع به المراحل) والمفاوز آنا فآنا (ويطوى على ظهرها الطريق) للوصول إلى المطلوب (والبدن) بمنزلة (مطية للقلب يركبها ليسلك بها إلى طريق الآخرة وفيها شهوات إن لم يكسرها) بقوة قاهرة (جمعت به في الطريق) واتبعته .

(فمن اشتغل طول عمره بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمر الدابة برياضتها ولم يركبها فلا يستفيد منها إلا الخلاص في الحال من عضها ورفسها ورمحها) وغير ذلك من العيوب التي فيها ممن تذهب بالرياضة (وهي لعمري فائدة مقصودة ولكن مثلها حاصل على البهيمة الميتة) فإنها ممن يؤمن منها من العضة والرفس والرمح (والدابة إنما تراد لفائدة تحصل من حياتها فكذلك الخلاص من ألم الشهوات في الحال يحصل بالنوم والموت فلا ينبغي أن تقنع بها) فإنه قليل الجدوى (كالراهب الذي) كان على قمة جبل وقد (قيل يا راهب) عظني (فقال: ما أنا راهب إنما كلب عقور حبست نفسي حتى لا أعقر الناس) أي: إنما أنا حابس لنفسي التي كالكلب العقور لئلا تعقر الناس. أورده أبو نعيم في الحلية .

ولفظ القشيري في الرسالة: ورئي بعض الرهبان فقيل إنك راهب فقال: لا أنا حارس كلب، إن نفسي كلب يعقر الخلق أخرجتها من بينهم ليسلموا منها (وهذا حسن ولكن بالإضافة إلى من يعقر الناس) بأن يؤذيهم ويقطع عليهم الطريق (ولكن لا ينبغي أن يقتصر عليه فإن من قتل نفسه أيضا لم يعقر الناس بل ينبغي أن يتشوف إلى الغاية المقصودة بها) وأنه ما المراد بهذا الحبس وما غايته التي لأجلها شرع فيه .

(ومن فهم ذلك واهتدى إلى الطريق وقدر على السلوك) فيها (استبان له) أي: ظهر (أن العزلة أعون له) أي: أكثر عونا (من المخالطة فالأفضل لهذا الشخص المخالطة أولا) ليتعلم رياضة النفس (والعزلة آخرا، وأما التأديب فإنما نعني به أن يروض غيره وهو حال شيخ المتصوفة معهم) أي: الصوفية (فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم) ومجالستهم ومعرفة مجاري أحوالهم مرة بعد أخرى (وحاله كحال العلم) سواء (ويتطرق إليه من دقائق الآفات والرياء ما يتطرق إلى نشر العلم) عند تعليمه (إلا أن مخايل طلب الدنيا من المريدين الطالبين للارتياض) وجهاد [ ص: 368 ] النفس (أبعد منها من طلبة العلم) في المدارس (ولذلك ترى فيهم قلة وطالبي العلم كثرة فينبغي أن يقيس ما يتيسر له في الخلوة بما يتيسر له في المخالطة وتهذيب القوم) وتأديبهم (وليقابل أحدهما بالآخر وليؤثر) أي: يختار (الأفضل) منها (وذلك يدرك بدقيق الاجتهاد و) هو مع ذلك (يختلف بالأحوال والأشخاص) والأزمان والبلدان (فلا يمكن الحكم عليه مطلقا بنفي وإثبات) بل من التفصيل السابق فيه، والله أعلم .




الخدمات العلمية