فهذا ما أردنا أن نذكره من أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته ، وقد ظهر على القطع إباحته في بعض المواضع والندب إليه في بعض المواضع .
فإن قلت : فهل له حالة يحرم فيها ? فأقول : إنه يحرم بخمسة عوارض عارض في المسمع وعارض في آلة الإسماع وعارض في نظم الصوت وعارض في نفس المستمع أو في مواظبته وعارض في كون الشخص من عوام الخلق لأن أركان السماع هي المسمع والمستمع وآلة الإسماع .
العارض الأول : أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة وليس ذلك لأجل الغناء بل لو كانت المرأة بحيث يفتتن بصوتها في المحاورة من غير ألحان ، فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضا وكذلك الصبي الذي تخاف فتنته .
فإن قلت : فهل تقول : إن ذلك حرام بكل حال حسما للباب أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة في حق من يخاف العنت .
؟ فأقول : هذه مسألة محتملة من حيث الفقه يتجاذبها أصلان أحدهما أن : حرام سواء خيفت الفتنة أو لم تخف ; لأنها مظنة الفتنة على الجملة . الخلوة بالأجنبية والنظر إلى وجهها
فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصور والثاني : أن النظر إلى الصبيان مباح إلا عند خوف الفتنة فلا يلحق الصبيان بالنساء في عموم الحسم بل يتبع فيه الحال ، وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين فإن قسناه على النظر إليها وجب حسم الباب وهو قياس قريب ولكن بينهما فرق إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أول هيجانها ولا تدعو إلى سماع الصوت ، وليس تحريك النظر لشهوة المماسة كتحريك السماع بل هو أشد .
وصوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة فلم تزل النساء في زمن الصحابة رضي الله عنهم يكلمن الرجال في السلام والاستفتاء والسؤال والمشاورة وغير ذلك .
ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة .
فقياس هذا على النظر إلى الصبيان أولى لأنهم لم يؤمروا بالاحتجاب كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات .
فينبغي أن يتبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه .
هذا هو الأقيس عندي ويتأيد بحديث الجاريتين المغنيتين في بيت رضي الله عنها إذ يعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أصواتهما ولم يحترز منه ، ولكن لم تكن . عائشة
الفتنة مخوفة عليه فلذلك لم يحترز .
فإذن ، يختلف هذا بأحوال المرأة وأحوال الرجل في كونه شابا وشيخا ولا يبعد أن يختلف الأمر في مثل هذا بالأحوال .
فإنا نقول للشيخ أن يقبل زوجته وهو صائم وليس للشاب ذلك ; لأن القبلة تدعو إلى الوقاع في الصوم وهو محظور والسماع يدعو إلى النظر والمقاربة وهو حرام فيختلف ذلك أيضا بالأشخاص .