الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد حكي عن أبي الحسن الدراج أنه قال : قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه فلما دخلت الري كنت أسأل عنه فكل من سألته عنه قال .

: أيش تعمل بذلك الزنديق ? فضيقوا صدري حتى عزمت على الانصراف .

ثم قلت في نفسي : قد جبت هذا الطريق كله فلا أقل من أن أراه .

فلم أزل أسأل عنه حتى دخلت عليه في مسجد وهو قاعد في المحراب وبين يديه رجل وبيده مصحف وهو يقرأ فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية فسلمت عليه فأقبل علي وقال : من أين أقبلت ? فقلت : من بغداد ، فقال : وما الذي جاء بك ? فقلت : قصدتك للسلام عليك فقال لو أن في بعض هذه البلدان قال لك إنسان : أقم عندنا حتى نشتري لك دارا أو جارية ، أكان يقعدك ذلك عن المجيء فقلت ما امتحنني الله بشيء من ذلك ولو امتحنني ما كنت أدري كيف أكون ثم قال لي : أتحسن أن تقول شيئا فقلت : نعم ، فقال : هات فأنشأت أقول .


رأيتك تبني دائما في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني     كأني بكم والليت أفضل قولكم
ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني

قال : فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وابتل ثوبه حتى رحمته من كثرة بكائه ، ثم قال : يا بني تلوم أهل الري يقولون يوسف زنديق هذا أنا من صلاة الغداة أقرأ في المصحف لم تقطر من عيني قطرة وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين .

التالي السابق


(وقد حكي عن أبي الحسين الدراج) بن الحسين الرازي تقدم ذكره، ولفظ الرسالة: وسمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: حكى لي بعض إخواني عن أبي الحسين الدراج (أنه قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي) شيخ المري والجبلي (من بغداد للزيارة والسلام عليه) ، وكان بالري، وهو نسيج وحده في إسقاط التصنع صحب ذا النون المصري وأبا تراب، ورافق أبا سعيد الخراز، مات سنة أربع وثلاثمائة، ترجمه القشيري في الرسالة، (فلما دخلت الري) وهي المدينة المشهورة من خراسان (كنت أسأل عنه) أي: عن منزله، (فكل من سألته يقول: أيش تعمل بذلك الزنديق؟) ولفظ الرسالة: فلما دخلت الري سألت عن منزله فكل من أسأل عنه يقول: أيش يقول الزنديق؟ (فضيقوا على صدري حتى عزمت على الانصراف) عنه، فبت تلك الليلة في مسجد (ثم قلت في نفسي: قد جئت هذا الطريق كله) ولفظ الرسالة: جئت هذا البلد (فلا أقل من أن أراه) ، ولفظ الرسالة: من زيارته، (فلم أزل أسأل عنه حتى دخلت عليه في المسجد) ، ولفظ الرسالة: حتى دفعت إلى مسجده (وهو قاعد في المحراب وبين يديه رجل بيده) وفي نسخة: وبيده، وفي أخرى: رجل في يده، (مصحف وهو يقرأ) وكل ذلك تصحيف، ولفظ الرسالة: وبين يديه رحل عليه مصحف يقرأ، والرحل بالحاء المهملة ما يوضع عليه المصحف، (وإذا بشيخ) ولفظ الرسالة: وإذا هو شيخ (بهي حسن الوجه واللحية) ، فدنوت منه (فسلمت) عليه، (فأقبل علي) بعد أن رد السلام، (وقال: من أين؟) جئت (فقلت: من بغداد، فقال: وما الذي جاء بك؟ فقلت: قصدتك للسلام عليك) ولفظ الرسالة: بعد قوله من بغداد: قصدت زيارة الشيخ (فقال) لي مكاشفة وامتحانا فيما وقع لي من ترددي في زيارته بسبب ما قيل: إنه زنديق، ومن قولي بعده فلا أقل من أن أراه ثم زيارتي له بهذه النية ورؤيتي له على صورة حسنة وهو يقرأ في المصحف، (لو أن رجلا في بعض هذه البلدان) التي بيننا وبين بغداد (قال لك: أقم عندنا حتى نشتري لك دارا وجارية، أكان يقعدك ذلك عن المجيء) ، ولفظ الرسالة: كان يمنعك عن زيارتي، (فقلت) له: يا سيدي (ما امتحنني الله بشيء [ ص: 560 ] من ذلك فلو) كان (امتحنني ما كنت أدري كيف يكون) ولفظ الرسالة: ولو كان لا أدري كيف كنت أكون، قال الشارح: يعني ما كنت أدري ما يكون، ففهم من كلامه أنه عاقل عالم بقدر الله صادق في زيارته، (ثم قال لي: أتحسن شيئا من القول) المناسب للحال، ولفظ الرسالة: تحسن أن تقول شيئا؟ (فقلت: نعم، فقال: هات، فابتدأت فقلت) :


رأيتك يدنيني إليك تباعدي فباعدت نفسي في ابتغاء التقرب

فقال: زدني، فقلت:


رأيتك تبني دائما في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني

في بعض النسخ: دائبا بالموحدة، وهكذا هو في الرسالة، أي: مجدا، والقطيعة: المجافاة والمهاجرة، والحزم: العقل، والتهديم: مبالغة الهدم، أشار به إلى أن العبد يشتغل في أكثر عمره بغير ربه وما خلق له


(كأني بكم والليت أفضل قولكم إلا ليتنا كنا إذا الليت لا يغني)

هذا البيت ثابت في سائر نسخ الكتاب، ولم يذكره صاحب الرسالة .

(قال: فأطبق المصحف) لما سمع هذا القول، (ولم يزل يبكي حتى ابتل ثوبه ولحيته حتى رحمته) أي: أشفقت عليه (من كثرة بكائه، ثم) أراد أن يعرفني أيضا كمال حاله وأن زيارته لم تجب حيث (قال: يا بني تلوم أهل الري) يعني أهل مدينته، إذ يقولون: يوسف بن الحسين زنديق، كأنه أشرف على ما يقولون في حقه (من صلاة الغداة) أي: الفجر، ولفظ الرسالة: ومن وقت الصلاة (هو ذا) أي: أنا أقرأ في المصحف ثم (لم تقطر من عيني قطرة) دمع (وقد قامت علي القيامة) وجرى ما رأيته (من هذين البيتين) ، ولفظ الرسالة بهذا البيت، أي: بسماعي له، وهذا كله يدل على كماله لاشتغاله بكتاب الله تعالى من وقت الصلاة إلى وقت الاجتماع مع ما رأيت، وأين هذا من الزندقة؟

وبالجملة فالغرض أن العبد لا يلتفت لمدح العوام ولا ذمهم; لأنهم يوقعون ذلك بغير أصل، ولو سمع هذا الزائر من كلامهم لفاتته هذه الخيرات. هكذا قرره شارح الرسالة وهو غير مطابق لكلام الشيخ تلوم أهل الري، أي: كيف تلومهم على قولهم هو زنديق، وقد رأيت مني ما رأيت من عدم البكاء والاستلذاذ بكلام رب العالمين، وحين سمعت قول المخلوق هاج عندي ما هاج، فكأنه يريد أنه ناقص المقام عن رتبة أهل الكمال، وهذا اعتراف منه لعجزه، وإيراد المصنف هذه القصة هنا يدل لما أشرت إليه، فتأمل تجده .




الخدمات العلمية