الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأدب الثاني هو : نظر الحاضرين أن ، الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع فلا ينبغي أن يسمع في حضورهم فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر ، والمريد الذي يستضر بالسماع أحد ثلاثة: .

أقلهم درجة .

هو الذي لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع ، فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو ولا من أهل الذوق فيتنعم بذوق السماع فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو تضييع لزمانه .

الثاني : هو الذي له ذوق السماع ولكن فيه بقية من الحظوظ والالتفات إلى الشهوات والصفات البشرية ، ولم ينكسر بعد انكسارا تؤمن غوائله : فربما يهيج السماع منه داعية اللهو والشهوة فيقطع عليه طريقه ويصده عن الاستكمال .

الثالث : أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته ، واستولى على قلبه حب الله تعالى ، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله تعالى وصفاته ، وما يجوز عليه ، وما يستحيل ، فإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حق الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز فيكون ضرره من تلك الخواطر التي هي كفر أعظم من نفع السماع .

قال سهل رحمه الله كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .

فلا يصلح السماع لمثل هذا ، ولا لمن قلبه بعد ملوث بحب الدنيا وحب المحمدة والثناء ، ولا لمن يسمع لأجل التلذذ والاستطابة بالطبع فيصير ذلك عادة له ويشغله ذلك عن عبادته ومراعاة قلبه ، وينقطع عليه طريقه .

فالسماع مزلة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه .

قال الجنيد رأيت إبليس في النوم فقلت له : هل تظفر من أصحابنا بشيء ? قال : نعم ، في وقتين : وقت السماع ، ووقت النظر ، فإني أدخل عليهم به .

فقال بعض الشيوخ لو رأيته أنا لقلت له ما أحمقك من سمع منه إذا سمع ونظر إليه إذا نظر ، كيف تظفر به فقال الجنيد : صدقت .

التالي السابق


(الأدب الثاني: وهو نظر للحاضرين، إن الشيخ إذا كان حوله مريدون) أي: مبتدئون في السلوك (يضرهم السماع) بأن يزيلهم عما كانوا عليه من الجد في الأعمال، (فلا ينبغي أن يسمع) ذلك الشيخ (في حضورهم فإن سمع) أي: اتفق سماعه بحضرتهم (فليشغلهم بشغل آخر، والمريد الذي يستضر بالسماع أحد ثلاثة أقلهم درجة هو الذي لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة) ، فهو مداوم عليها، (ولم يكن له ذوق السماع، فاشتغاله بالسماع) حينئذ اشتغال بما لا يعنيه، فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو; لأن السماع صورته صورة لهو (ولا) هو (من أهل الذوق) الكامل، (فيتنعم بذوق السماع) فليشتغل من وصفه هذا (بذكر أو خدمة) للفقراء، (وإلا فهو تضييع لزمانه) فيما لا يعنيه .

(والثاني: هو الذي له ذوق السماع ولكن فيه) بعد (بقية من الحظوظ الطبيعية والالتفات إلى الشهوات النفسية والصفات البشرية، ولم ينكسر بعد انكسارا يؤمن من غوائله أي: مهالكه فربما يهيج السماع منه داعية اللهو والشهوة فيقطع عليه طريقه ويصده عن الاستكمال) ، وإليه الإشارة في قول ذي النون المصري -رحمه الله تعالى- سئل عنه فقال: من أصغى [ ص: 562 ] إليه بنفس تزندق، وكذا قول الأستاذ أبي علي الدقاق: السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم، وقال آخر: من شرط صاحب السماع بشرط الحال الفناء عن أحوال البشرية والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة .

(الثالث: أن تكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته، واستولى على قلبه حب الله تعالى، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم) أي: لم يتقنه، (ولم يعرف أسماء الله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه، وما يستحيل، فإذا فتح عليه باب السماع نزل المسموع في حق الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز فيكون ضرره من تلك الخواطر) المارة عند تنزيله على ما لا يجوز (التي هي كفر أعظم من نفع السماع) وإليه الإشارة بقول من قال: شرط صاحب السماع بشرط العلم معرفة الأسامي والصفات التي لله تعالى يصفه بما يليق بجلاله مما سمعه وينفي عنه ما سواه، وإلا وقع في الكفر المحض .

(قال) أبو محمد (سهل) بن عبد الله التستري: (كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) ، نقله القشيري في الرسالة، (فلا يصلح السماع لمثل هذا، ولا لمن قلبه بعد ملوث بحب الدنيا وحب المحمدة والثناء، ولا لمن يسمع لأجل التلذذ والاستطابة بالطبع فيصير ذلك عادة له ويشغله ذلك عن عباداته ومراعاة قلبه، وينقطع عليه طريقه، فالسماع مزلة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه) . قال صاحب العوارف: وحيث تصدى للحرص عليه أقوام قلت أعمالهم وفسدت أحوالهم صار معلولا تركن إليه النفوس طلبا للشهوات واستحلاء لمواطن اللهو والغفلات، وينقطع بذلك على المريد طلب المزيد، ويكون بطريقه تضييع الأوقات وقلة الحظ من العبادات، وتكون الرغبة في الاجتماع طلبا لتناول الشهوة واسترواحا إلى الطرب واللهو والعشرة، ولا يخفى أن هذا الاجتماع مردود عند أهل الصدق، فكان يقال: لا يصح السماع إلا لعارف مكين، ولا يصلح لمريد مبتدئ، قال الجنيد: إذا رأيت المريد يطلب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة، وقيل: إن الجنيد ترك السماع فقيل له: أما كنت تسمع فلم تمتنع؟ فقال: مع من؟ قيل له: تسمع أنت لنفسك، فقال: ممن؟ لأنهم كانوا لا يسمعون إلا من أهل مع أهل، فلما فقدوا سماع الإخوان تركوا، فما اختاروا السماع حيث اختاروه إلا بشروط وقيود وآداب، يذكرون به الآخرة ويزداد به طلبهم وتحسن به أحوالهم، ويتفق لهم ذلك اتفاقا في بعض الأحايين لا أن يجعلوه دأبا وديدنا حتى يتركوا لأجله الأوراد .

قال أبو القاسم (الجنيد) قدس سره (رأيت إبليس في النوم فقلت له: هل تظفر من أصحابنا) الصوفية (بشيء؟ قال: نعم، في وقتين: وقت السماع، ووقت النظر، فإني أدخل عليهم به، فقال بعض الشيوخ) حين ذكر له الجنيد ذلك: (لو رأيته أنا لقلت) له: (ما أحمقك من سمع منه إذا سمع ونظر إليه إذا نظر، كيف تظفر به) يشير إلى أن من كمل مقامه في السماع وفي النظر فسار به يسمع وبه ينظر، كيف يداخله إبليس؟ (قال الجنيد: صدقت) ويشبه هذه القصة ما قال القشيري: رأى بعضهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فقال: الغلط في هذا كثير، يعني به السماع، سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر النهاوندي يقول: سمعت عليا السائح يقول: سمعت أبا الحارث الأدلاسي يقول: رأيت إبليس في المنام وهو على بعض سطوح أدلاس وأنا على سطح وعلى يمينه جماعة وعلى يساره جماعة، وعليهم ثياب نظاف فقال لطائفة منهم: قولوا، فقالوا وغنوا فاستفزعني طيبه حتى هممت أن أطرح نفسي من السطح، ثم قال: ارفعوا، فرفعوا أطيب ما يكون، ثم قال: يا أبا الحارث ما أصبت شيئا أدخل به عليكم إلا هذا .




الخدمات العلمية