الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الدرجة الخامسة : التغيير باليد ، وذلك ككسر الملاهي ، وإراقة الخمر ، وخلع الحرير من رأسه وعن بدنه ، ومنعه من الجلوس عليه ودفعه عن الجلوس على مال الغير ، وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله ، وإخراجه من المسجد إذا كان جالسا وهو جنب وما يجري مجراه، ويتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض . .

فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها ، وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي ، وجوارحه الباطنة ، وفي هذه الدرجة أدبان : .

أحدهما أن لا : يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن تكليف المحتسب عليه ذلك ، فإذا أمكنه أن يكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد فلا ينبغي أن يدفعه أو يجره ، وإذا قدر على أن يكلفه إراقة الخمر وكسر الملاهي وحل دروز ثوب الحرير فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه فإن في الوقوف على حد الكسر نوع عسر فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه ، وتولاه من لا حجر عليه في فعله . .

الثاني : أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه ، وهو أن لا يأخذ بلحيته في الإخراج ، ولا برجله إذا قدر على جره بيده ، فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه وأن لا ، يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط ، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى ، بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر ، وحد الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء .

وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلا فإن لم يقدر عليها إلا بأن يرمي ظروفها بحجر ، فله ذلك ، وسقطت قيمة الظرف وتقومه بسبب الخمر إذ صار حائلا بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر ، ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه بالجرح والضرب لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذن لا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه ، ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان ، وأدركه الفساق ومنعوه فله كسرها فهذا عذر ، وإن كان لا يحذر ظفر الفساق به ومنعهم ، ولكن كان يضيع في زمانه ، وتتعطل عليه أشغاله فله أن يكسرها ، فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه ، وغرضه من أشغاله لأجل ظرف الخمر ، وحيث كانت الإراقة متيسرة بلا كسر فكسره ، لزمه الضمان فإن قلت : فهلا جاز الكسر لأجل الزجر ، وهلا جاز الجر بالرجل في الإخراج عن الأرض المغصوبة ؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر ، فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل والعقوبة تكون على الماضي، والدفع على الحاضر الراهن وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع ، وهو إعدام المنكر ، فما زاد على قدر الإعدام ، فهو إما عقوبة على جريمة سابقة ، أو زجر عن لاحق ، وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية نعم ، الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه وأقول : له أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمور ؛ زجرا وقد فعل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تأكيدا للزجر .

ولم يثبت نسخه ، ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك وإذا ، كان هذا منوطا بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية فإن قلت : فليجز للسلطان زجر الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم ، وتخريب دورهم التي فيها يشربون ويعصون وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون إلى المعاصي ، فاعلم أن ذلك لو ورد الشرع به لم يكن خارجا عن سنن المصالح ولكنا لا نبتدع المصالح بل نتبع فيها وكسر ظروف الخمر قد ثبت عند شدة الحاجة، وتركه بعد ذلك لعدم شدة الحاجة لا يكون نسخا بل الحكم يزول بزوال العلة ، ويعود بعودها وإنما جوزنا ذلك للإمام بحكم الاتباع ، ومنعنا آحاد الرعية منه ؛ لخفاء وجه الاجتهاد فيه بل نقول : لو أريقت الخمور أولا فلا يجوز كسر الأواني بعدها وإنما جاز كسرها تبعا للخمر ، فإذا خلت عنها فهو إتلاف مال إلا أن تكون ضاربه بالخمر، لا تصلح إلا لها فكان الفعل المنقول عن العصر الأول كان مقرونا بمعنيين ، أحدهما شدة الحاجة إلى الزجر ، والآخر تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها ، وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما ومعنى ثالث ، وهو صدوره عن رأي صاحب الأمر ؛ لعلمه بشدة الحاجة إلى الزجر ، وهو أيضا مؤثر فلا سبيل إلى إلغائه ، فهذه تصرفات دقيقة فقهية يحتاج المحتسب لا محالة إلى معرفتها .

التالي السابق


(الدرجة الخامسة: التغيير باليد، وذلك ككسر) آلات (الملاهي، والصور، وإراقة الخمر، وخلع الحرير عن رأسه وعن بدنه، ومنعه من الجلوس عليه) ، وفي الأخير خلاف لأبي حنيفة؛ فإنه أجازه لما فيه من الاستهانة، فلا يكون منكرا، (ودفعه عن الجلوس على مال الغير، وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله، وإخراجه من المسجد إذا كان جالسا وهو جنب) إن علم ذلك منه (وما يجرى مجراه، ويتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض .

فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدم على مباشرة تغييرها، وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي، وجوارحه الباطنة، وفي هذه الدرجة أدبان:

أحدهما: ألا يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن تكليف المحتسب عليه ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه المشي) على رجليه (في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد) وهو جنب (فلا ينبغي أن يأخذه، ويجره) على الأرض (وإذا قدر على أن يكلفه إراقة الخمر وكسر الملاهي) والصور (وحل دروز الثوب الحرير) ، وهي العقود التي تربط بها مواضع من الثوب على البدن، وهي في بلاد العجم بمنزلة الأزرار في هذه البلاد (فلا ينبغي أن يباشر بنفسه) فإن لم يقدر فعليه المباشرة، (فإذا في الوقوف على حد الكسر نوع عسر) ومشقة، (فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفي الاجتهاد فيه، وتولاه من لا حجر عليه) أي: من لا منع (في فعله .

الثاني: أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه، وهو ألا يأخذ بلحيته في الإخراج، ولا برجله إذا قدر على جره بيده، فإن) فيها زيادة الأذى في حق المسلم، و (زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وألا يمزق الثوب الحرير) الذي على رأسه أو بدنه (بل يحل دروزه فقط، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى، بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر، وحد الكسر أن يصير إلى حالة يحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء) .

وأما الحرق ففيه ضياع للمال (وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني) التي فيها الخمر (إن وجد إليه سبيلا إن لم يقدر عليها إلا بأن يرمي ظروفها بحجر، فله ذلك، وسقطت قيمة الظرف وتقومه بسبب الخمر) أي: تبطل قيمة الظروف، وإن كانت مثمنة بسبب ما فيها (إذا صار الظرف حائلا بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر، ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه بالضرب، والجرح ليتوصل إلى إراقة الخمر؛ فلا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه، ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس) لا يهرق الخمر إلا في مدة، (ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان، وأدركه الفساق ومنعوه) من الإراقة (فله كسرها) عاجلا (فهذا عذر، وإن كان لا يحذر ظفر الفساق به ومنعهم، ولكن كان يضيع فيه زمانه، وتتعطل عليه أشغاله فله أن يكسرها، فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه، وغرضه من أشغاله لأجل ظروف الخمر، وحيث تكون الإراقة متيسرة) أي: مسهلة (بلا كسر، فإذا كسر) وفي نسخة: متيسرة [ ص: 46 ] كالكسر، فكسر (لزمه الضمان) ؛ فإنه إتلاف مال، (فإن قلت: فهلا جاز الكسر لأجل الزجر، وهلا جاز الجر بالرجل في الإخراج عن الأرض المغصوبة؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل) لئلا يقع في المعصية ثانيا، والعقوبة تكون عن المعاصي، والدفع عن الحاضر الراهن في الحال، (وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع، وهو إعدام المنكر، فما زاد على قدر الإعدام، فهو إما عقوبة على جريمة سابقة، أو زجر عن) جرم (لاحق، وذلك) موكول (إلى الولاة) للأمور (لا إلى الرعية) كما سبق (نعم، الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه) ، وتكون المصلحة دينية، (فأقول: له أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمور؛ زجرا) وتأديبا، (وقد فعل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأكيدا للزجر) .

قال العراقي : رواه الترمذي من حديث أبي طلحة أنه قال: يا نبي الله، اشتريت خمرا لأيتام في حجري، قال: أهرق الخمر واكسر الدنان. وفيه ليث بن أبي سليم، والأصح رواية المروي عن السدي عن يحيى بن عباد عن أنس أن أبا طلحة كان عنده.. قاله الترمذي (ولم يثبت نسخه، ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة) لقرب عهدهم بتحريم الخمر، (فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل تلك الحالة جاز له مثل ذلك، وإن كان هذا منوطا بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية) ؛ لقصورهم عن ذلك، (فإن قلت: فليجز للسلطان زجر الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم، وتخريب دورهم التي بها يشربون) المسكرات، (ويعصون) الله تعالى، (وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون إلى) تلك (المعاصي، فاعلم أن ذلك لو ورد الشرع به لم يكن خارجا عن سنن المصالح) الشرعية، (ولكنا لا نبتدع المصالح) ابتداعا، (بل نتبع فيها) اتباعا (وكسر ظروف الخمر قد ثبت) بالخبر المتقدم عند شدة الحاجة (وتركها بعد ذلك لعدم شدة الحاجة لا يكون نسخا) للحكم (بل الحكم يزول بزوال العلة، ويعود بعودها) ؛ فإن عادت العلة عاد الحكم، وإن زالت زال، فالحكم من أصله ثابت، (فإنما جوزنا ذلك للإمام بحكم الاتباع، ومنعنا آحاد الرعية منه؛ لخفاء وجه الاجتهاد فيه) ، فلا يدركونه (بل نقول: لو أريقت الخمور أولا فلا يجوز كسر الإناء بعدها) أي: بعد الإراقة، (بل جاز كسرها تبعا للخمر، فإذا خلت عنها) فكسرت، فهو إتلاف مال (إلا أن تكون) تلك الظروف (ضارية) أي: متعودة (بالخمر، لا تصلح) لشيء (إلا لها) ، ولو وضع فيها شيء آخر لفسد ولم ينتفع به (فكان الفعل المنقول عن العصر الأول) من جواز كسرها، (كان مقرونا بمعنيين، أحدهما شدة الحاجة إلى الزجر، والآخر تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها، وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما) ، وهما موجودان في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة في الحديث السابق: أهرق الخمر واكسر الدنان، (ومعنى ثالث، وهو صدوره عن رأي صاحب الأمر؛ لعلمه بشدة الحاجة إلى الزجر، وهو أيضا مؤثر، لا سبيل إلى إلغائه) أي: تركه، (وهذا المعنى أيضا موجود في حديث أبي طلحة، فهذه تصرفات دقيقة) المدارك (فقهية يحتاج المحتسب لا محالة إلى معرفتها) ليكون على بصيرة تامة في احتسابه .




الخدمات العلمية