الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكان يأكل مما يليه ويأكل بأصابعه الثلاث وربما استعان بالرابعة ولم يأكل بأصبعين ، ويقول : إن ذلك أكلة الشيطان وجاءه عثمان بن عفان رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه ، وقال : ما هذا يا عبد الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي نجعل السمن والعسل في البرمة ونضعها على النار ثم نغليه ، ثم نأخذ مخ الحنطة إذا طحنت فنقليه على السمن والعسل في البرمة ثم نسوطه حتى ينضج فيأتي كما ترى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الطعام طيب وكان يأكل خبز الشعير غير منخول وكان يأكل القثاء بالرطب وبالملح .

التالي السابق


(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل مما يليه) قال العراقي : رواه أبو الشيخ من حديث عائشة، وفي إسناده رجل لم [ ص: 117 ] يسم ، وسماه في رواية له ، وكذلك البيهقي في روايته في الشعب عبيد بن القاسم ، نسيب سفيان الثوري ، وقال البيهقي : تفرد به عبيد هذا ، وقد رماه بن معين بالكذب ، ولأبي الشيخ من حديث عبد الله بن جعفر نحوه اهـ .

قلت: وروى البخاري في التاريخ ، عن جعفر بن أبي الحكم مرسلا ، "كان إذا أكل لم تتعد أصابعه ما بين يديه"، ورواه أبو نعيم في المعرفة ، عن الحكم بن رافع بن يسار ، ورواه الطبراني في الكبير عن الحكم بن عمرو الغفاري ، وروى الخطيب من حديث عائشة : "كان إذا أتي بطعام أكل مما يليه ، وإذا أتي بالتمر جالت يده"، ثم إن الأكل مما يلي الآكل على الندب على الأصح ، وقيل: على الوجوب; لأنه من إلحاق الضرر بالغير ، ومزيد الشره والنهمة ، وانتصر له السبكي ، ونص عليه الشافعي في الرسالة ومواضع من الأم ، ومحل الكراهة ، أو الحرمة إن لم يعلم رضا من يأكل معه ، وإلا فلا ، لما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- "كان يتتبع الدباء من حوالي القصعة"، كما سيأتي; لأنه علم أن أحدا لا يكره ذلك ولا يستقذره ، ومن أجاب بأنه كان يأكل وحده مردود بأن أنسا كان يأكل معه على أن قضية كلام الأصحاب أن الأكل مما يليه سنة ، وإن كان وحده ، ويفهم من خبر عائشة السابق التفصيل في الطعام والتمر ، وفيما إذا كان الطعام لونا واحدا فلا يتعدى الآكل مما يليه ، وإذا كان أكثر يتعداه ولا ضرر ، وفي نحو التمر ولا تقذر ، وبحث بعضهم التعميم غفلة عن المعنى ، وعن السنة، والله أعلم .

(ويأكل بأصابعه الثلاث) الإبهام والسبابة والوسطى، قال العراقي : رواه مسلم من حديث كعب بن مالك اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد وأبو داود والترمذي في الشمائل ، ولفظهم جميعا : "كان يأكل بثلاث أصابع ويلعق قبل أن يمسحها".

ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: " رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام"، (وربما استعان بالرابعة) .

قال العراقي : رويناه في الغيلانيات من حديث عامر بن ربيعة ، وفيه القاسم بن عبد الله العمري، هالك ، وفي مصنف ابن أبي شيبة من رواية الزهري مرسلا :"كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكل بالخمس اهـ .

قلت: حديث عامر بن ربيعة رواه أيضا الطبراني في الكبير ولفظه: " كان يأكل بثلاث أصابع ويستعين بالرابعة"، وأما مرسل الزهري فمحمول على المائع ، وذلك لأن الاقتصار على الثلاث محله إن كفت ، وإلا فكما في المائع زاد بحسب الحاجة ، (ولم يكن) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل بأصبعين ، ويقول: إن ذلك أكلة الشياطين) .

قال العراقي : رواه الدارقطني في الإفراد من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف: "لا تأكل بأصبع فإنه أكل الملوك ولا تأكل بأصبعين فإنه أكل الشياطين"، الحديث اهـ .

قلت: ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بلفظ: "لا تأكلوا بهاتين ، وأشار بالإبهام والمشيرة ، كلوا بثلاث فإنها سنة ولا تأكلوا بالخمس فإنها أكلة الأعراب"، (و) يروى أنه -صلى الله عليه وسلم- (جاءه عثمان بن عفان) -رضي الله عنه- (بفالوذج) وهو اسم أعجمي لنوع من الحلواء (فأكل منه، وقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟) ، قال ابن عبد البر يكنى أبا عبد الله ، وأبا عمرو كنيتان مشهورتان ، وأبو عمرو أشهرهما قيل: إنه ولدت له رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنا ، فسماه عبد الله ، واكتنى به ، ومات ، ثم ولد له عمرو فاكتنى به إلى أن مات ، قال: وقد قيل: إنه كان يكنى أبا ليلى .

(قال: بأبي أنت وأمي السمن والعسل في البرمة) ، وهي بالضم : قدر من الفخار (ونضعها على النار حتى نغليه ، ثم نأخذ مخ الحنطة) ، أي لبابها (إذا طحنت فنقليه على السمن والعسل ثم نسوطه) ، أي نحركه بالسوط (حتى ينضج) ، أي يستوي (فيأتي كما ترى ، فقال -صلى الله عليه وسلم- إن هذا طعام طيب) .

قال العراقي : المعروف أن الذي صنعه عثمان الخبيص ، رواه البيهقي في الشعب من حديث ليث بن أبي سليم ، قال: "أول من خبص الخبيص عثمان بن عفان ، قدمت عليه عير تحمل النقي والعسل" الحديث، وقال هذا منقطع ، وروى الطبراني ، والبيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن سلام "أقبل عثمان ومعه راحلة ، وعليها غرارتان ، وفيه فإذا دقيق وسمن وعسل، وفيه ثم قال لأصحابه: كلوا هذا الذي تسميه فارس الخبيص" .

وأما الفالوذج فرواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من حديث ابن عباس قال: " أول [ ص: 118 ] ما سمعنا بالفالوذج أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: أمتك تفتح عليهم الأرض ، ويفاض عليهم من الدنيا حتى إنهم ليأكلون الفالوذج ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : وما الفالوذج ؟ قال: يخلطون السمن والعسل جميعا".

قال ابن الجوزي في الموضوعات: هذا حديث باطل ، لا أصل له اهـ .

قلت: أخرجه من طريق ابن أبي الدنيا قال حدثني إبراهيم بن سعد الجوهري، ثنا أبو اليمان ، عن إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن طلحة ، عن عثمان بن يحيى ، عن ابن عباس فذكره، وفي رواية أخرى بزيادة "فشهق النبي -صلى الله عليه وسلم- شهقة" قال: وهذا حديث باطل لا أصل له، ومحمد بن طلحة قد ضعفه يحيى بن معين وعثمان بن يحيى الحضرمي ، قال الأزدي : لا يكتب حديثه عن ابن عباس ، وقال النسائي : إسماعيل بن عياش ضعيف .

قلت: وهذا القدر الذي ذكره لا يوجب أن يكون الحديث باطلا لا أصل له ، كيف وقد أخرجه ابن ماجه ، وغاية ما يقال: إن إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين فلا يحتج بحديثه، وفرق بين أن يقال: ضعيف وأن يقال: باطل، والعجب من الحافظ العراقي كيف سكت عن التعقب عليه .

(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل خبز الشعير غير منخول) من نخالته ، وفي هذا تركه -صلى الله عليه وسلم- التكلف والاعتناء بشأن الطعام فإنه لا يعتني به إلا أهل البطالة والغفلة ، قال العراقي : رواه البخاري من حديث سهل بن سعد اهـ .

قلت: ورواه مسلم والترمذي نحوه .

(وكان) -صلى الله عليه وسلم- (يأكل القثاء بالرطب) قال الكرماني: الباء للمصاحبة أو للملاصقة ، وإنما يفعل ذلك; لأن الرطب حار رطب في الثانية يقوي المعدة الباردة ، لكنه سريع التعفن ، مورث للسدد ، والقثاء بارد رطب في الثانية منعش للقوى ، ملطف للحرارة ، ففي كل منهما إصلاح للآخر .

قال العراقي : متفق عليه من حديث عبد الله بن جعفر اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد والأربعة إلا النسائي ، ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في يمينه قثاء ، وفي شماله رطب ، وهو يأكل من ذا مرة ، ومن ذا مرة"، وسنده ضعيف .

(و) كان -صلى الله عليه وسلم- يأكل القثاء (بالملح) لكونه يدفع ضرره ، قال العراقي : رواه أبو الشيخ من حديث عائشة ، وفيه يحيى بن هاشم ، كذبه ابن معين وغيره ، ورواه ابن عدي ، وفيه عباد بن كثير متروك .




الخدمات العلمية