الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان سخاوته وجوده صلى الله عليه وسلم .

كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة لا يمسك شيئا وكان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان أجود الناس كفا وأوسع ، الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشيرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله وما سئل عن شيء قط على الإسلام إلا أعطاه وإن رجلا أتاه فسأله فأعطاه غنما سدت ما بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، وقال : أسلموا ؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة .

وما سئل شيئا قط فقال : لا وحمل إليه تسعون ألف درهم ، فوضعها على حصير ، ثم قام إليها فقسمها ، فما رد سائلا حتى فرغ منها وجاءه رجل فسأله فقال : ما عندي شيء ، ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه ، فقال عمر يا رسول الله ، ما كلفك الله مالا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال الرجل : أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم .

وعرف السرور في وجهه .

التالي السابق


* (بيان سخائه صلى الله عليه وسلم وجوده) *

(كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم ) ، أي : أكثرهم جودا وسخاء ، وهما مترادفان ، وقال بعضهم ، الجود ، صفة هي مبدأ إفادة ما ينبغي لا لغرض ، والسخاء إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي روى الشيخان من حديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس وأجود الناس ، قاله العراقي .

قلت : وكذلك رواه الترمذي وابن ماجه .

(وكان) صلى الله عليه وسلم (في شهر رمضان كالريح المرسلة) بفتح السين ، أي : المطلقة (لا يمسك شيئا) قال العراقي : روى الشيخان من حديث ابن عباس ، "كان أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان " ، وفيه : "فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة " ، اهـ .

قلت : وكذلك رواه الترمذي في الشمائل ، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة ، والى عموم النفع بجوده صلى الله عليه وسلم ، تعم الريح المرسلة ، جميع ما تهب عليه ، ورواه كذلك أحمد بزيادة : "لا يسأل شيئا إلا أعطاه " ، وسبب أجوديته إتيان جبريل له كل ليلة من رمضان كما في الصحيحين ، وإما كان إتيانه سببا لذلك ؛ لأنه رسول ربه إليه وأمين حضرته ، والمتولي لقسمة مواهبه ، وذلك موجب نهاية الأجودية ، وأيضا إذا جاءه جبريل ، وعرض عليه [ ص: 139 ] القرآن تجدد تخلقه بأخلاق ربه ، وأفيض عليه غاية جوده ، ونهاية قربه ، فحينئذ يزداد جوده ، ويتسع وجوده .

(وكان علي رضي الله عنه - إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم - قال : كان أجود الناس كفا ، وأجرأ الناس صدرا) ، وفي بعض النسخ : أوسع ، بدل أجرأ ، ولفظ الشمائل أجود الناس صدرا ، أي قلبا ، تسمية الشيء باسم محله أو مجاوره ، أي : جوده صلى الله عليه وسلم بالسجية والطبع ، لا بالتكلف ، وقيل : من الجودة ، أي : أحسنهم قلبا لسلامته من كل غش ودنس ، كيف وقد صح أن جبريل شقه واستخرج منه علقة ، وقال : "هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست ذهب بماء زمزم " ، (وأصدق الناس لهجة) بفتحتين ، أو بفتح فسكون أي لسانا ، أي كان لسانه صلى الله عليه وسلم أصدق الألسنة ، إذ هو أفصح الخلق ، وأعذبهم كلاما ، وأسرعهم أداء ، وأحلاهم منطقا ، كان حسن كلامه يأخذ بمجامع القلوب .

(وأوفاهم بذمة) ، وفي نسخة ذمة ، (وألينهم عريكة) ، أي : طبيعة ، فهو مع الناس على غاية من السلامة ، والمطاوعة ، وقلة الخلاف ، والنفور . (وأكرمهم عشيرة) ، وفي نسخة عشرة ، أي اختلاطا وصحبة ، وعلى الأول هنا أكرمهم قبيلة ، أي قوما ، من جهة أبيه وأمه .

(من رآه بديهة) ، أي : فجأة عن غير قصد (هابه) ، أي أخذته الهيبة لما كان يظهر عليه من عظيم الجلالة ، والمهابة والوقار ، (ومن خالطه معرفة أحبه) ، لكمال حسن معاشرته ، وباهر عظيم تألفه (يقول ناعته) ، أي : واصفه : (لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم) ، للزوم هذا الوصف له ، وظهوره عند من له أدنى بصيرة فلما لم يخف كان كل واصف ملزوما بأن هذا القول يصدر عنه ، وإن لم يصدر عنه التصريح به غفلة وذهولا فالرؤية هنا علمية ، أي : لم أعلم به مماثلا في وصف من أوصاف الكمال ، وأما ما ثبت من وجوه شبهه صلى الله عليه وسلم عمن ذكروهم ، وهم اثنا عشر أو أكثر ، فإن المراد به الشبه في البعض ، وإلا فجملة محاسنه منزهة عن الشريك ، كما أفاد صاحب البردة رحمه الله تعالى - ، قال العراقي : رواه الترمذي ، وقال : ليس إسناده بمتصل .

قلت : ولفظه : "أجود الناس صدرا وأصدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة " ، والباقي سواء .

(وما سئل) صلى الله عليه وسلم (قط على الإسلام) شيئا من متاع الدنيا (إلا أعطاه) وجاد به أو وعده ، أو سكت ، (فإن رجلا أتاه فسأله فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، وقال : يا قوم ، أسلموا ؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) .

وفي لفظ : الفقر ، رواه مسلم من حديث أنس قاله العراقي .

قلت : رواه من طريق عاصم بن النفر ، عن خالد بن الحارث ، حدثنا حميد بن موسى ، عن موسى بن أنس ، عن أبيه ، ورواه البيهقي في الدلائل ، من طريق محمد بن أبي يعقوب الكرماني ، عن خالد بن الحارث ، وتمامه عند مسلم : " وأعطى صفوان بن أمية يوم حنين مائة من الغنم ، ثم مائة ، ثم مائة حتى صار أحب الناس إليه ، بعدما كان أبغضهم إليه ، فكان ذلك سببا لحسن إسلامه " ، وروى مسلم والترمذي من طريق سعيد بن المسيب ، عن صفوان بن أمية ، قال : "والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم - وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي " .

(وما سئل) صلى الله عليه وسلم (شيئا فقال : لا) قال العراقي : متفق عليه من حديث جابر . اهـ .

قلت : وروى ابن سعد في الطبقات من مرسل محمد بن الحنفية ، كان لا يكاد يقول لشيء لا ، فإذا هو سئل فأراد أن يفعل قال : نعم ، وإذا لم يرد أن يفعل سكت ، ومن هنا قال الشاعر :


ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم

وقد تقدم شيء من ذلك في أول الباب ، (وحمل إليه تسعون ألف درهم ، فوضعها على حصير ، ثم قام إليها يقسمها ، فما رد سائلا حتى فرغ منها ) ، هكذا رواه الترمذي ، وقال العراقي : روى أبو الحسن بن الضحاك في الشمائل من حديث الحسن مرسلا ، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قدم عليه مال من البحرين ، ثمانون ألفا لم يقدم عليه مال أكثر منه لم يسأله أحد يومئذ إلا أعطاه ، ولم يمنع سائلا ، ولم يعط ساكنا ، فقال له العباس " ، الحديث ، وللبخاري تعليقا من حديث أنس : "أتي النبي صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - " الحديث ، وفيه : "فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس " ، الحديث ، ووصله عمر بن محمد البحيري في صحيحه اهـ .

قلت : ولفظ البخاري وقال إبراهيم بن طهمان ، عن عبد العزيز [ ص: 140 ] بن صهيب ، عن أنس " أتي بمال من البحرين ، فأمر بصبه في المسجد ، وكان أكثر مال أتي به ، فخرج إلى المسجد ، ولم يلتفت ، فلما قضى الصلاة ، جاء يجلس إليه ، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه إنسان ، فسأله فقال : خذ فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله ، فلم يستطع فقال : يا رسول الله ، مر بعضهم يرفعه لي ، قال : لا ، قال ارفعه أنت علي ، قال : لا فنثر منه ، ثم ذهب يقله فلم يستطع ، فقال : كالأول فقال له : لا ، فنثر منه ، ثم احتمله ، فأتبعه صلى الله عليه وسلم بصره ، حتى غاب عجبا من حرصه ، ما قام صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم ، قال ابن دحية : هذا على امتداد قامة العباس ، وطوله في الناس ، إذ كان ممن يقل من الأرض ، فيما الجمل إذا برك يحمله ، فما يدري قدر ما حمل من تلك الدراهم النقرة على كاهله " ، اهـ .

وفي خبر مرسل : "إنه كان مائة ألف ألف " ، رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، عن حميد بن هلال .

(وجاءه رجل فسأله) شيئا من متاع الدنيا (فقال : ما عندي شيء ، ولكن ابتع علي) بتقديم الموحدة على المثناة الفوقية ، أي اشتر شيئا بثمن الذمة علي أداؤه . (فإذا جاء شيء قضيناه ، فقال عمر ) رضي الله عنه : (يا رسول الله ، ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فقال الرجل : أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا) ، أي شيئا من الفقر ، (فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم - وعرف السرور في وجهه) .

قال العراقي : رواه الترمذي في الشمائل ، من حديث عمر ، وفيه موسى بن أبي علقمة الفردي ، لم يرو عنه غير ابنه ، ما روى اهـ .

قلت : وفيه عنده فقال عمر : "يا رسول الله ، قد أعطيته ، فما كلفك الله ما لا تقدر عليه " ، ومعنى قوله : أعطيته ، أي شيئا مرة أخرى ، قبل هذه أو الميسور من القول ، وهو قولك : ما عندي شيء فاكتف بذلك ، ولا تجعل في ذمتك شيئا ، وفيه : "فكره النبي صلى الله عليه وسلم - قول عمر " ، أي : من حيث التزامه قنوط السائل وحرمانه لا بمخالفة الشرع ، وفيه : "فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، أنفق " إلخ ، وفي آخره : "بهذا أمرت " أي بالإنفاق ، وعدم الخوف ، لا بما قال عمر ، كما أفاده تقديم الظرف المفيد للقصر ، أي : قصر القلب ردا لاعتقاد عمر ، وأفاد صلى الله عليه وسلم بذكره أمره بالإنفاق في هذه الحالة ، أي : إنه مأمور به في كل حال دعت المصلحة إليه لاستيلاف ، أو نحوه ؛ لأنه يمكنه بقرض ، أو نحوه ، فإن عجز فبعدة إذ هي إنفاق لا أنها التزام للنفقة .

(تنبيه)

الحديث المشهور على الألسنة ، "أنفق بلال ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا " ، وفي لفظ : "يا بلال " ، وفي لفظ : "ولا تخافن " ، رواه الطبراني والبزار ، من حديث ابن مسعود ، ورواه العسكري في الأمثال ، من حديث عائشة ، وأخرجه الطبراني أيضا من حديث أبي هريرة ، وكذلك رواه البيهقي في الشعب ، متصلا ، ومن مرسل ابن سيرين ، وما يحكى عن كثيرين في لفظه : " أنفق بلالا " ويتكلمون في توجيهه بكونه نهيا عن المنع ، فليس له أصل ، نبه عليه الحافظ السخاوي .




الخدمات العلمية