الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد بل كان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من الناس ، ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما ، فإذا فارقاه نسبا إلى الطول ، ونسب هو صلى الله عليه وسلم إلى الربعة ويقول صلى الله عليه وسلم جعل الخير كله في الربعة .

وأما لونه فقد كان أزهر اللون ولم يكن بالآدم ولا بالشديد البياض والأزهر هو الأبيض الناصع الذي لا تشوبه صفرة ، ولا حمرة ولا شيء من الألوان ونعته عمه أبو طالب فقال .


وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ونعته بعضهم بأنه مشرب بحمرة فقالوا إنما كان المشرب منه بالحمرة ما ظهر للشمس والرياح ، كالوجه والرقبة ، والأزهر الصافي عن الحمرة ، ما تحت الثياب منه .

التالي السابق


(كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - في قامته ) الشريفة (أنه لم يكن بالطويل البائن) بالهمز ، ووهم من جعله بالياء ، أي : المفرط طولا مع اضطراب ، (ولا بالقصير المتردد) ، الذي يتردد بعض خلقه على بعض ، ففيه نفي الطول المفرط ، والقصر المفرط ، (بل كان ينسب إلى الربعة) بفتح فسكون ، وقد يحرك ، وتأنيثه باعتبار النفس ، ولذلك استوى فيه المذكر والمؤنث ، إذ يقال في جمع كل منهما ربعات بالسكون والتحريك شاذ ، روى الشيخان والخرائطي من حديث البراء : "كان أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير " ، الحديث .

وروى البيهقي في الدلائل ، من حديث أبي هريرة : "كان ربعة إلى الطول مائل " الحديث ، وعند المنذري في الزهريات من حديثه ، "كان ربعة ، وهو إلى الطول أقرب " وإسناده حسن .

وعند البيهقي من حديث علي ، وهو إلى الطول أقرب ، وعنده أيضا من حديث عائشة : "كان ينسب إلى الربعة ، وفي زوائد المسند لعبد الله بن أحمد ، ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة ، ولا تنافي بين الأخبار ؛ لأنه أمر نسبي ، فمن وصفه بالربعة ، أراد الأمر التقريبي ، ولم يرد التحديد ، ومن ثم قال ابن أبي هالة : كان أطول من المربوع ، وأقصر من المشذب ، وهو البائن الطول ، في نحافة ، رواه الترمذي في الشمائل ، والطبراني ، والبيهقي ، وروى الترمذي أيضا في الشمائل : "ليس بالطويل الممغط ، ولا بالقصير المتردد " ، وذلك (إذا مشى وحده ومع ذلك فلم يماشه أحد من الناس ، ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما ، فإذا فارقاه نسب إلى الطول ، ونسب هو صلى الله عليه وسلم إلى الربعة) رواه ابن أبي خيثمة في التاريخ ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر من حديث عائشة ، وفي خصائص ابن سبع ، كان [ ص: 146 ] إذا جلس يكون كتفه ، أعلى من المجالس ، (ويقول صلى الله عليه وسلم جعل الخير كله في الربعة ) يعني المعتدل القامة ، رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق ، والديلمي ، من حديث عائشة ، ويروى عن الحسن بن علي ، أن الله جعل البهاء والهوج في الطوال ، قال السخاوي : وما اشتهر على الألسنة ما خلا قصير من حكمة لم أقف عليه .

(وأما لونه) صلى الله عليه وسلم (فقد كان أزهر اللون) ، أي : مشرقه نيره ، قال في الروض : الزهرة لغة : إشراق في اللون ، أي لون كان من بياض ، أو غيره ، وسيأتي للمصنف تفسيره بعد ذلك ، (ولم يكن بالآدم) بالمد ، أي : لم يكن شديد السمرة ، وإنما يخالط بياضه الحمرة ، لكنها حمرة بصفاء فيصدق عليه أنه أزهر ، (ولا الشديد البياض) ، وهو المعبر عنه بالأمهق . رواه البخاري ، والترمذي من حديث أنس بلفظ : "أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق ، ولا بالآدم " الحديث .

ورواه الترمذي في الشمائل عن هند بن أبي هالة : "أزهر اللون واسع الجبين " ، الحديث .

(والأزهر) في اللغة (هو الأبيض الناصع) ، أي : الخالص الصافي (الذي لا تشوبه صفرة ، ولا حمرة ولا شيء من الألوان) ، والاسم الزهرة ، بالضم قال ابن السكيت : هو البياض ، وزاد غيره النير ، وتقدم عن السهيلي ، في الروض نقلا عن أبي حنيفة ، هو الإشراق في أي لون كان وقال شمر : الأزهر هو الأبيض العتيق البياض النير الحسن ، وهو أحسن البياض كان له بريقا ، ونورا يزهر ، كما يزهر النجم ، والسراج .

وروى مسلم ، وأبو داود ، والترمذي في الشمائل من حديث أبي الطفيل ، "كان أبيض مليحا ، مقصدا " ، وفي رواية لمسلم : "كان أبيض مليح الوجه " ، وللترمذي في الشمائل من حديث أبي هريرة : "كان أبيض كأنما صيغ من فضة " ، وفي رواية لأحمد : "فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة " ، وروى البزار ويعقوب بن سفيان ، من طريق سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : "كان شديد البياض " وللطبراني من حديث أبي الطفيل : "ما أنسى شدة بياض وجهه مع شدة سواد شعره " .

(ونعته عمه) شقيق أبيه (أبو طالب) عبد مناف بن عبد المطلب ، والد علي رضي الله عنه - وإخوته الحارث وجعفر ، وعقيل ، (فقال) في قصيدة طويلة :


( وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل )

ذكره ابن إسحاق في السيرة ، وفي المسند عن عائشة أنها تمثلت بهذا البيت ، وأبو بكر يقضي فقال أبو بكر : ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفيه علي بن زيد بن جدعان ، مختلف فيه ، وللبخاري تعليقا من حديث ابن عمر ربما ذكرت قول الشاعر ، وأنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم - يستسقى الغمام فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب ، فأنشده وقد وصله ابن ماجه بإسناد صحيح .

(ونعته بعضهم بأنه) صلى الله عليه وسلم (مشرب) بتخفيف الراء وتشديدها (بحمرة) وقد روي بالوجهين ، والإشراب مداخلة نافذة سائغة ، كالشراب ، وهو الماء الداخل كلية الجسم للطافته ، ونفوذه ، ومن قال بالتشديد أراد به التكثير ، والمبالغة في شدة البياض للحمرة ، وبه فسر : كان أزهر اللون ، كما عند مسلم ، عن أنس ، وهذا القول نقله صاحب المصباح عن بعضهم ، وروى البيهقي في الدلائل من حديث علي : "كان أبيض مشربا بياضه بحمرة " الحديث ، ورواه الترمذي كذلك ، والبيهقي أيضا من حديثه ، "كان أبيض مشربا بحمرة ، ضخم الهامة " ، الحديث .

ثم اعلم أن البياض إذا كان مشربا بالحمرة فإن العرب تطلق عليه بالأسمر ، ويقولون السمرة هي الحمرة ، التي تخالط البياض ، وعليه يحمل ما رواه أحمد والبزار وابن منده ، أنه صلى الله عليه وسلم : كان أسمر ، قال الحافظ ، وسنده صحيح ، صححه ابن حبان ، وروى البيهقي في الدلائل : "كان أبيض بياضه إلى السمرة " ، وفي لفظ لأحمد بسند حسن : "أسمر إلى البياض " ، ويروى عن ابن عباس : "كان جسمه ولحمه أحمر إلى البياض ، فثبت بمجموع الروايات ، أن المراد بالسمرة حمرة تخالط البياض ، وبالبياض المثبت في روايات معظم الصحابة : ما يخالط الحمرة ، وإن وصف في رواية بأنه شديد الوضح ، وفي أخرى سندها قوي شديد البياض لإمكان حمل شدته على الأمر النسبي ، فلا ينافي كونه مشربا بها ، وبالمنفي ما لا تخالطه هي ، وهو الذي تكرهه العرب وتسميه أمهق .

وما روى البخاري ، والبيهقي في الدلائل من حديث أنس ، " أزهر اللون أمهق ليس بأبيض ، ولا آدم " الحديث ، فمحمول على أن المراد بالأمهق الأخضر اللون ، الذي [ ص: 147 ] ليس بياضه في الغاية الأحمرية والأسمرية فقد نقل عن رؤبة بن العجاج أن المهق خضرة الماء ، كما قاله الحافظ ابن حجر ، فما توهم القاضي أن رواية ليس بالأبيض ، ولا بالآدم غير صواب مردود ، بل معناها صحيح ، كما تقرر ، وهذا الذي قررناه في الجمع بين الأخبار حسن .

وقد أشار المصنف إلى الجمع بتقرير آخر بقوله : (فقال) ، أي : هذا البعض الذي نعته بأنه مشرب بحمرة ، بعد ثبوت روايات كان أبيض شديد البياض ، في بعض النسخ ، فقيل ، وفي أخرى فقالوا : (إنما كان المشرب منه بالحمرة ما ظهر للشمس والرياح ، كالوجه والرقبة ، والأزهر الصافي من الحمرة ، ما تحت الثياب منه) ، وهذا القول نقله البيهقي في الدلائل ، فقال : يقال : إن المشرب منه بحمرة ، وإلى السمرة ما ضحا منه للشمس والريح .

وأما ما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر ، هذا القول قد رده ابن حجر في شرح الشمائل ، فإن أنسا لملازمته له وقربه منه لا يخفى عليه أمره ، حتى يصفه بغير صفته الأصلية الملازمة له ، فتعين حمل السمرة في روايته على الحمرة ، التي تخالط البياض ، كما مر على أنه ثبت في عنقه الشريف أنه أبيض ، كأنما صيغ من فضة ، مع أن العنق بارز ، ورد ذلك أيضا بأن تأثير الشمس فيه ينافي ما ورد أنه كان يظلله سحابة ، وهو غفلة ؛ لأنه إذ ذاك كان إرهاصا ، ومتقدما على النبوة ، وأما بعدها فلم يحفظ ذلك ، كيف وأبو بكر قد ظلل عليه بثوبه ، لما وصل المدينة ، وصح أنه ظلل بثوب ، وهو يرمي الجمرات في حجة الوداع .



( تنبيه) *

قالوا : يكفر من قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم - أسود ؛ لأن وصفه بغير صفته نفي له وتكذيب به ، منه يؤخذ أن كل صفة علم ثبوتها له بالتواتر ، كان نفيها كفرا ، للعلة المذكورة ، وقول بعضهم : لا بد في الكفر من أن يصفه بصفة تشعر بنقصه كالأسود هنا ، فإن السواد لون مفضول فيه نظر ؛ لأن العلة كما علمت ليست من النقص ، بل ما ذكر فالوجه أنه لا فرق ؛ فإن قلت : لونه صلى الله عليه وسلم أشرف الألوان ، ولون أهل الجنة كذلك ، فلم لم تكن ألوانهم البياض المشرب بالحمرة ، بل بالصفرة ، كما قال جمهور المفسرين ، في قوله تعالى : كأنهن بيض مكنون شبههن ببيض النعام المكنون في عشها ولونها بياض به صفرة حسنة .

قلت : اللون واحد ، وإنما اختلف فيما شيب به وحكمته -والله أعلم - أن الشوب بالحمرة ينشأ عن الدم وصفائه ، واعتدال جريانه في البدن وعروقه ، وهو من الفضلات الجيدة ، التي تنشأ عن أغذية هذه الدار ، فناسب الشوب فيها ، وأما الشوب بالصفرة التي تورث البياض صفاء وصقالة ، فلا ينشأ عادة من غذاء من أغذية هذه الدار ، فناسب أن يختص الشوب به في تلك الدار ، فظهر أن الشوب في كل من الدارين بما يناسبها .

فإن قلت : من عادة العرب مدح النساء بالبياض المشرب بصفرة ، كما وقع في لامية امرئ القيس ، وهذا يدل على أنه فاضل في ألوان أهل الدنيا أيضا .

قلت : لا نزاع في أنه فاضل ، وإنما النزاع في أنه أفضل الألوان في هذه الدار ، وليس كذلك ، بل أفضلها المشرب بحمرة ، لما تقرر أن لونه صلى الله عليه وسلم أفضل الألوان .




الخدمات العلمية