الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومسح ضرع شاة حائل لا لبن لها فدرت وكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود رضي الله عنه وفعل ذلك مرة أخرى في خيمة أم معبد الخزاعية وندرت عين بعض أصحابه فسقطت فردها صلى الله عليه وسلم بيده ، فكانت أصح عينيه وأحسنهما .

التالي السابق


(و) من معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه (مسح ضرع شاة حائل) يقال : حالت الشاة ، وكذا الناقة والمرأة ، وكل أنثى حيالا بالكسر : لم تحمل فهي حائل (لا لبن لها فدرت) اللبن (فكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود ) ، قال العراقي : رواه أحمد من حديث ابن مسعود بإسناد جيد اهـ .

قلت : ورواه أيضا الطبراني في المعجم الصغير من حديثه كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : "هل عندك لبن ؟ قلت : نعم ، لكن مؤتمن عليها ، قال : فهل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل ؟ قلت : نعم ، فأتيته بشاة فمسح النبي -صلى الله عليه وسلم - مكان الضرع بيده ، وهو يدعو وما كان لها ضرع ، فإذا ضرع حافل مملوء لبنا فأتيت [ ص: 186 ] النبي صلى الله عليه وسلم - بصخرة منقعرة ، فأحلبت الشاة ، فسقى أبا بكر ، ثم سقاني ، ثم شرب ، ثم قال للضرع : اقلص فرجع كما كان ، فلما رأيت هذا قلت : يا رسول الله ، علمني فمسح رأسي ، وقال : بارك الله فيك ، فإنك غلام معلم " .

(وفعل ذلك) صلى الله عليه وسلم (مرة أخرى في خيمة أم معبد) عاتكة بنت خلف (الخزاعية) تقدم حديث أم معبد هذه في ذكر حليته الشريفة ، وأشرت هناك أنه قد رويت هذه القصة أيضا من حديث أبي معبد ، وهو زوجها فلنسقها هنا :

أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الحسن بن مكرم ، قال : حدثني أبو أحمد بشر بن محمد السكري ، ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ، ثنا الحر بن الصباح ، عن أبي معبد الخزاعي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة هاجر من مكة ، إلى المدينة هو وأبو بكر ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، ودليلهم عبد الرحمن بن أريقط الليثي ، فمروا بخيمة أم معبد وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة ، فتطعم وتسقي فسألوها : هل معها لحم أو لبن ، يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك ، فقالت : لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى ، وإذا القوم مرملون مسنتون ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإذا شاة في كسر خيمتها ، فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ قالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم ، قال : فهل لها من لبن ؟ قالت : بأبي وأمي هي أجهد من ذلك ، قال : تأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت : إن كان بها حلب فاحلبها ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالشاة ، فمسحها وذكر اسم الله تعالى ومسح ضرعها ، وذكر اسم الله تعالى ، ودعا بإناء لها يربض الرهط ، فتفاجت ودرت واجترت فحلب فيها ثجا حتى علاه الثمال ، فسقاها وسقى أصحابه ، فشربوا عللا بعد نهل ، حتى أراضوا وشرب آخرهم ، وقال : ساقي القوم آخرهم ، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ، ثم ارتحلوا " ، الحديث .

وأخرج البيهقي أيضا من طريق محمد بن عمران بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وأسد بن موسى كلاهما ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدثنا عبد الرحمن الأصبهاني ، قال : سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر رضي الله عنه - قال : "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى بيت متنحيا فقصد إليه ، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت : يا عبد الله ، إنما أنا امرأة ، وليس معي أحد ، فعليكما بعظيم الحي ، إن أردتم القرى ، قال : فلم يجبها وذلك عند المساء ، فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها ، فقالت له : يا بني انطلق بهذا العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما : تقول لكما أمي : اذبحا هذه وكلا وأطعمانا ، فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم - انطلق بالشفرة ، وجئني بالقدح قال : إنها قد عزفت وليس لها لبن ، قال : انطلق فانطلق فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم - ضرعها ، ثم حلب حتى ملأ القدح ، ثم قال : انطلق به إلى أمك فشربت حتى رويت ، ثم جاء به ، فقال : انطلق بهذه وجئني بأخرى ، ففعل بها كذلك ، ثم سقى أبا بكر ، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك ، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : فبتنا ليلتنا ، ثم انطلقنا ، وكانت تسميه المبارك ، وكثرت غنمها ، حتى جلبت جلبا إلى المدينة ، فمر أبو بكر رضي الله عنه - فرآه ابنها فعرفه ، فقال : يا أمه ، إن هذا الرجل الذي كان مع المبارك ، فقامت إليه ، فقالت : يا عبد الله ، من الرجل الذي كان معك ، قال : وما تدرين من هو ؟ قالت : لا ، قال : هو النبي صلى الله عليه وسلم - قالت : فأدخلني عليه ، قال : فأدخلها عليه ، وأهدت إليه شيئا من أقط ومتاع الأعراب ، قال : فكساها ، وأعطاها قال : ولا أعلمه إلا قال أسلمت " .

قال البيهقي : وهذه القصة وإن كانت تنقص على ما روينا في قصة أم معبد وتزيد في بعضها ، فهي قريبة منها ، ويشبه أن تكونا واحدة ، وقد ذكر ابن إسحاق من قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه القصة واحدة ، والله أعلم .

ثم ساق من طريق ابن إسحاق ، قال : "فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم - بخيمة أم معبد فأرادوا القرى قالت : والله ما عندنا طعام ، ولا لنا منحة ، ولا لنا شاة إلا حائل ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ببعض غنمها ، فمسح ضرعها بيده ، ودعا الله عز وجل وحلب في العس ، حتى أرغى وقال : اشربي يا أم معبد ، فقال : اشرب أنت ، فأنت أحق به ، فرده عليها فشربت ، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك ، فشربه ، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك ، فسقى دليله ، ثم دعا بحائل أخرى ، ففعل بها مثل ذلك ، فسقى عامرا ، ثم تروح وطلبت قريش [ ص: 187 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى بلغوا أم معبد فسألوها عنه ، فقالوا : رأيت محمدا ، أن حليته كذا فوصفوه لها ، فقالت : ما أدري ما تقولون ، قد ضافني حالب الحائل ، قالت قريش : فذاك الذي نريد " .

قال البيهقي : فيحتمل أن يكون أولا رأى التي في كسر الخيمة ، كما روينا في حديث أبي معبد ، ثم رجع ابنها بأعنز ، كما روينا في حديث ابن أبي ليلى ، ثم لما أتى زوجها وصفته له ، والله أعلم .

وذكر البيهقي قصة أخرى تناسب في الباب ، أخرجها من طريق إياد بن لقيط ، عن قيس بن النعمان ، قال : لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر مستخفيين مرا بعبد يرعى غنما ، فاستقياه اللبن ، فقال : ما عندي شاة تحلب ، غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء ، وقد أخرجت وما بقي لها لبن ، فقال : "ادع بها فدعا بها ، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم - ومسح ضرعها ، ودعا حتى أنزلت قال : وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر ، ثم حلب فسقى الراعي ، ثم حلب فشرب ، فقال الراعي : بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط ؟ قال : أوتراك تكتم علي حتى أخبرك ؟ قال : نعم ، قال : فإني محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال : أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ ، قال : إنهم ليقولون ذلك ، قال : فأشهد أنك نبي ، وأشهد أن ما جئت به حق ، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي ، وأنا متبعك ، فقال : إنك لا تستطيع ذلك يومك ، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا " .

(و) من معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه (ندرت عين بعض أصحابه فسقطت فردها ، فكانت أصح عينيه وأحسنها) قال العراقي : رواه أبو نعيم والبيهقي ، كلاهما في دلائل النبوة ، من حديث قتادة بن النعمان ، وهو الذي سقطت عينه ففي رواية البيهقي أنه كان ببدر ، وفي رواية أبي نعيم أنه بأحد ، وفي إسناده اضطراب ، وكذا رواه البيهقي من حديث أبي سعيد الخدري اهـ .

قلت : قال البيهقي في الدلائل : في أثناء سياق غزوة بدر ، أخبرنا أبو سعد الماليني ، أخبرنا أبو أحمد بن عدي الحافظ ، ثنا أبو يعلى ، ثنا يحيى الحماني ، ثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن قتادة بن النعمان ، "أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته ، فأرادوا أن يقطعوها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال : لا فدعا به ، فغمز حدقته براحته ، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت " .

قلت : ويحيى الحماني ضعيف ، ولم ينبه عليه العراقي ، وفي المواهب للقسطلاني : "وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنته ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ، إن لي امرأة أحبها ، وأخشى إن رأتني تقذرني فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم - بيده وردها إلى موضعها ، وقال : اللهم اكسه جمالا ، فكانت أحسن عينيه ، وأحدهما نظرا ، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته فسأله عمر من أنت ؟ فقال :


أبونا الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أيما رد فعادت كما كانت لأول أمرها
فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد

فوصله عمر وأحسن جائزته "
، قال السهيلي : ورواه محمد بن أبي عثمان ، عن مالك بن أنس ، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، عن أخيه قتادة بن النعمان ، قال : "أصيبت عيناي يوم أحد فسقطتا على وجنتي فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم - فأعادهما مكانهما ، وبصق فيهما فعادتا تبرقان " ، قال الدارقطني : هذا حديث غريب عن مالك ، تفرد به عمار بن نصر ، وهو ثقة ، ورواه الدارقطني عن إبراهيم الحربي ، عن عمار بن نصر .

وأخرج الطبراني في الكبير ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن قتادة ، قال : "كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما رآها في كفي دمعت عيناه ، فقال : اللهم ق قتادة ، كما وقى وجه نبيك بوجهه فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرا " .




الخدمات العلمية