الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن أبوابه حمل العوام الذين لم يمارسوا العلم ولم يتبحروا فيه على التفكر في ذات الله تعالى وصفاته ، وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يشككهم في أصل الدين أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات يتعالى الله عنها يصير أحدهم بها كافرا أو مبتدعا ، وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره يظن ذلك هو المعرفة والبصيرة ، وأنه انكشف له ذلك بذكائه وزيادة عقله ، فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقادا في عقل نفسه وأثبت الناس عقلا أشدهم اتهاما لنفسه وأكثرهم سؤالا من العلماء ، قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلقك ? فيقول : الله تبارك وتعالى . فيقول : فمن خلق الله ? فإذا وجد أحدكم ذلك ، فليقل : آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالبحث في علاج هذا الوسواس فإن هذا وسواس يجده عوام الناس دون العلماء وإنما حق العوام أن يؤمنوا ويسلموا ويشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم ويتركوا العلم للعلماء فالعامي لو يزني ويسرق كان خيرا له من أن يتكلم في العلم ؛ فإنه من تكلم في الله وفي دينه من غير إتقان العلم وقع في الكفر من حيث لا يدري كمن يركب لجة البحر وهو لا يعرف السباحة ومكايد الشيطان فيما يتعلق بالعقائد ، والمذاهب لا تحصر ، وإنما أردنا بما أوردناه المثال .

التالي السابق


(ومن أبوابه) العظيمة (حمل العوام الذين يمارسوا العلم) ولم يزاولوا فيه بالتعلم والدراسة والانكباب على تحصيله على الهيئة المعهودة ، (ولم يتبحروا فيه) بالغوص على مشكلاته (على التفكر في ذات الله تعالى وصفاته ، وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يشككهم) أي: يوقعهم في الشك (في أصل الدين أو يخيل إليهم) في أثناء تقريره (في الله تعالى خيالات) وظنونات (يتعالى الله عنها) ويجل شأنه عن نسبتها إليه (يصير بها كافرا أو مبتدعا، وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره) وأوقر في لبه، (يظن ذلك هو المعرفة والبصيرة، وأنه انكشف له بذكائه وزيادة عقله ، فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقادا في عقل نفسه) أي: إعجابا به، (وأثبت الناس عقلا أشدهم اتهاما لنفسه وأكثرهم سؤالا من العلماء ، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله تبارك وتعالى. فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك ، فليقل: آمنت بالله ورسوله) أي: فليقل أخالف عدو الله المعاند وأؤمن بالله ، وبما جاء به رسول الله؛ (فإن ذلك يذهب عنه) ؛ لأن الشبه منها ما يدفع بالإعراض عنها ، ومنها ما يندفع بخلعه من أصله بتطلب البراهين والنظر في الأدلة مع إمداد الحق بالمعونة والوسوسة ، لا تعطى ثبوت الخواطر واستقرارها ، فلذا أحالهم على الإعراض عنها ، قال العراقي : رواه أحمد والبزار وأبو يعلى في مسانيدهم ، ورجاله ثقات ، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة . ا هـ .

قلت: ورواه كذلك من حديث عائشة ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، ولفظ مسلم من حديث أبي هريرة : يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض. فيقول: من خلق الله؟ فمن وجد في ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ورسله. ولفظ البخاري: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. رواه مسلم أيضا وروى الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو: إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله ، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله ، فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله. ورجاله رجال الصحيح خلا أحمد بن محمد بن نافع الطحان شيخ الطبراني ، ورواه أيضا في الأوسط بلفظ من خلق السماوات ، وفيه: حتى يقول: من خلق الله؟ ورواه هكذا أحمد وعبد بن حميد والطبراني في الكبير أيضا من حديث خزيمة بن ثابت (فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمره بالبحث عن علاج هذا الوسواس) من الشيطان (فإن هذا وسواس يجده عوام الناس دون العلماء) منهم [ ص: 283 ] العارفين بنور البصيرة ، وقد استقر الإيمان في قلوبهم فلا يتزلزلون، (وإنما حق العوام أن يؤمنوا) أي: يصدقوا بقلوبهم (ويسلموا) أي: ينقادوا لأمور الدين (ويشتغلوا بعبادتهم) الظاهرة، (ومعايشهم بينهم ويتركوا العلم) والغوص في معانيه (للعلماء) الصادقين، (فالعامي لو يزني أو يسرق كان خيرا له من أن يتكلم في العلم؛ فإنه من تكلم في الله وفي دينه من غير إتقان العلم) وذلك بمعرفة حجته وبراهينه مع مساعدة تأييد الله تعالى وشهود نور اليقين (وقع في الكفر من حيث لا يدري كمن يركب لجة البحر وهو لا يعرف السباحة) ومن ذلك قول سهل التستري : إفشاء سر الربوبية كفر فإن العوام إذا ورد على أسماعهم ما تنبو عنه طباعهم لم يقبلوه وصاروا أعداء ما جهلوه، فالأولى أن لا يخاطبوا بمثل ذلك صيانة لهم عن الزيغ والوقوع في الكفر (ومكايد الشيطان فيما يتعلق بالعقائد، والمذاهب) والأهواء والآراء (لا تحصر، وإنما أردنا بما أردناه المثال) لينبه على ما وراءه .




الخدمات العلمية