الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآثار : كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد وقال عبد الله بن مسعود والله الذي لا إله إلا هو ، ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان وقال طاوس لساني سبع ، إن أرسلته أكلني وقال وهب بن منبه في حكمة آل داود حق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه ، حافظا للسانه ، مقبلا على شأنه وقال الحسن ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه وقال الأوزاعي كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله أما بعد ؛ فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه ، إلا فيما يعنيه وقال بعضهم : الصمت يجمع للرجل فضيلتين : السلامة في دينه والفهم عن صاحبه وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم وقال يونس بن عبيد ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله وقال الحسن تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت ، فقال له ما لك يا أبا بحر لا تتكلم ؟ فقال له : أخشى الله إن كذبت ، وأخشاك إن صدقت وقال أبو بكر بن عياش اجتمع أربعة ملوك ملك الهند وملك الصين ، وكسرى ، وقيصر ، فقال أحدهم أنا : أندم على ما قلت ولا ، أندم على ما لم أقل . وقال الآخر إني : إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها ، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني . وقال الثالث : عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته ، وإن لم ترجع لم تنفعه . وقال الرابع : أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت وقيل : أقام المنصور بن المعتز لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة أربعين سنة وقيل : ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة ، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسا وقلما؛ فكل ما ، تكلم به كتبه ، ثم يحاسب نفسه عند المساء .

التالي السابق


( الآثار : كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام ) ، وقد اشتهر ذلك عنه، وحكاه غير واحد من العلماء، (وكان أبدا يشير إلى لسانه) ويجبذه تارة بيده، وإذا سئل عن ذلك (يقول: هذا الذي أوردني الموارد) ، تقدم هذا القول من طريق زيد بن أسلم عن أبيه "أن عمر قال له: مه يا خليفة رسول الله" . ومن رواية قيس بن أبي حازم عن أبي بكر ، وقد ذكر قريبا. (وقال عبد الله بن مسعود ) رضي الله عنه: ( والله الذي لا إله إلا هو، ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا جرير وأبو معاوية ، عن الأعمش ، عن يزيد بن حيان عن عنبس بن عقبة التيمي قال: قال عبد الله بن مسعود : "والذي لا إله غيره ما على الأرض شيء أفقر -وقال أبو معاوية : أحوج- إلى طول سجن من لسان" .

وحدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا أبو نصر التمار ، حدثنا حماد ، عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: "ما شيء أحق بطول السجن من اللسان" . وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن الطبراني عن علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم عن الأعمش عن يزيد بن حيان ، فساقه بلفظ: "والله الذي لا إله إلا هو ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان" . (وقال ابن طاوس ) هو عبد الله: (لساني سبع، إن أرسلته أكلني) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا سفيان ، قال بعض الماضين: "إنما لساني سبع، إن أرسلته خفت أن يأكلني" ، وحدثني علي بن أبي مريم عن زيد بن الحباب ، حدثنا محمد بن حوشب ، سمعت أبا عمران الجوني يقول: "إن لسان أحدكم كلب، فإذا سلطه على نفسه أكله" . (قال وهب بن منبه) اليماني رحمه الله تعالى، (في حكمة آل داود ) عليه السلام: (حق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه، حافظا للسانه، مقبلا على شانه) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي الأغر ، عن وهب بن منبه قال: في حكمة آل داود : "حق على العاقل.."، فساقه .

وأخرج ابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي ذر رفعه: كان في صحف إبراهيم عليه السلام: "وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شانه، حافظا للسانه" .

(وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: ( ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه ) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثني شريح بن يونس ، حدثنا علي بن ثابت عن أبي الأشهب ، عن الحسن .. فساقه، (وقال) أبو عمرو (الأوزاعي) الفقيه رحمه الله تعالى: (كتب إلينا عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى برسالة لم يحفظها غيري وغير مكحول : ( أما بعد؛ فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه، إلا فيما يعنيه ) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا خلف بن تميم ، عن عبد الله بن محمد الأنصاري عن الأوزاعي قال: كتب.. فساقه، إلا أنه قال: قل كلامه فيما لا ينفعه (قال بعضهم: الصمت يجمع للرجل خصلتين : السلامة والفهم عن صاحبه) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثني محمد بن الحسين قال: سمعت محمد بن عبد الوهاب السكوني يقول: الصمت يجمع للرجل.. فساقه، (وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار ) -البصريان العابدان- (يا أبا يحيى ) وهي كنية مالك بن دينار : (حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم) أخرجه ابن أبي الدنيا [ ص: 457 ] في الصمت، فقال: حدثني علي بن أبي مريم ، عن أحمد بن إسحاق الحضرمي ، حدثنا جعفر الخراز قال: سمعت محمد بن واسع يقول لمالك بن دينار : يا أبا يحيى ، حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدنانير والدراهم ، (وقال يونس بن عبيد) بن دينار العبدي أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، مات سنة تسع وثلاثين، روى له الجماعة. (ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثني الحسن بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد عن سليمان بن المغيرة قال: سمعت يونس بن عبيد يقول.. فساقه .

(وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (تكلم قوم عند معاوية) بن أبي سفيان ( والأحنف بن قيس التميمي ساكت، فقال له) معاوية : (ما لك يا أبا بحر ) ، وهي كنية الأحنف ، (لا تتكلم؟ فقال له: أخشى الله إن كذبت، وأخشاك إن صدقت) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثني داود بن عمرو الضبي ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا ابن عون عن الحسن قال: كانوا يتكلمون عند معاوية والأحنف ساكت، فقالوا: ما لك لا تتكلم يا أبا بحر ؟ قال: أخشى الله إن كذبت، وأخشاكم إن صدقت . وحدثني محمد بن الحسين عن عبيد الله بن محمد التيمي قال: قيل للأحنف بن قيس يوم قطري: تكلم. قال: أخاف ورطة لساني . (وقال أبو بكر بن عياش) بياء تحتية مشددة وشين معجمة، ابن سالم الأسدي الكوفي المقري الحناط، بالنون، مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على أقوال عشرة، كذا في التهذيب للحافظ، وفي الأربعين العشارية للعراقي : على ثلاثة عشر قولا، والصحيح أن اسمه كنيته، وصححه ابن حبان وابن عبد البر ، وابن الصلاح ، والمزي والذهبي ، وقد احتج به البخاري في صحيحه، ووثقه أحمد وابن معين ، مات سنة أربع وتسعين، قال: (اجتمع أربعة ملوك) فرموا رمية واحدة بكلمة واحدة، (ملك الهند وملك الصين ، وكسرى ، وقيصر ، فقال أحدهم: إنما أندم على ما قلت، ولم أندم على ما لم أقل. وقال آخر: إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني. وقال الثالث: عجبت للمتكلم إن رجعت عليه الكلمة ضرته، وإن لم ترجع لم تنفعه. وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثني همام بن الوليد أبو طالب الهروي ، قال: سألته فقال: سمعت أبا بكر بن عياش ، قال: اجتمع أربعة ملوك.. فساقه، (وقيل: أقام المنصور بن المعتمر) بن عبد الله السلمي أبو عتاب الكوفي، الثقة، العابد، مات سنة اثنتين وثلاثين ومئة، روى له الجماعة، (لم يتكلم بكلمة بعد عشاء الآخرة أربعين سنة) ، وصام أربعين سنة، صام نهارها وقام ليلها، وكان يبكي الليل كله، فتقول له أمه: يا بني، قتلت قتيلا؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي. فإذا أصبح كحل عينيه ودهن رأسه وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس. ذكره المزي في التهذيب .

(وقيل: ما تكلم الربيع بن خيثم) بن عائذ الثوري أبو زيد الكوفي، الثقة العابد، (بكلام الدنيا أربعين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسا، فكلما تكلم كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء) ، وكان من المخبتين الخاشعين، مات في ولاية عبد الله بن زياد ، وروى له الجماعة إلا أبا داود .



(تنبيه)

وقد بقي على المصنف ذكر آثار هي على شرطه في الكتاب، روى ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت من طريق ابن عون ، حدثني عطاء البزاز ، عن أنس بن مالك قال: لا يتقي الله رجل أو أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه ، ومن طريق حميد بن هلال قال: قال عبد الله بن عمر : دع ما لست منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك . ومن طريق نسير بن ذغلوق عن بكر بن ماعز ، عن الربيع بن خيثم قال: يا بكر بن ماعز، اخزن عليك لسانك، إلا مما لك ولا عليك . ومن طريق جرير عن أبي حيان التيمي قال: كان يقول: ينبغي للرجل أن يكون أحفظ للسانه منه لموضع قدمه ، ومن طريق حماد بن زيد قال: بلغني أن محمد بن واسع كان في مجلس، فتكلم رجل، فأكثر الكلام، فقال محمد : ما على أحدهم لو سكت فتوقى وتنقى . ومن طريق جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: لو كلف الناس الصحف لأقلوا الكلام . ومن طريق سفيان بن عيينة قال: قال وهيب بن الوردان : الرجل يصمت فيجتمع إليه لبه . ومن طريق أبي الأحوص عن محمد بن النضر الحارثي قال: كان يقال: كثرة الكلام تذهب الوقار. ومن [ ص: 458 ] طريق خلف بن إسماعيل قال: قال لي رجل من عقلاء الهند : كثرة الكلام تذهب بمروءة الرجل. ومن طريق قبيصة قال: قال داود الطائي لمحمد بن عبد العزيز ذات يوم: أما علمت أن حفظ اللسان أشد الأعمال وأفضلها ؟ قال محمد : بلى، فكيف لنا بذلك؟ ومن طريق عمران بن يزيد قال: قال علي رضي الله عنه: اللسان قوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان لم تقم له جارحة . ومن طريق عباد بن الوليد القرشي قال: قال الحسن : اللسان أمير البدن، وإذا جنى على الأعضاء جنت، وإذا عف عفت . ومن طريق خيثمة عن عدي بن حاتم قال: أيمن أحدكم وإساءته بين لحييه، يعني لسانه . ومن طريق الشعبي قال: قلت للهيثم بن أبي الأسود النخعي : أي الثلاثة أشعر منك، ومن الأعور الشني وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، حيث تقول أنت:


وأعلم علما ليس بالظن أنه إذا زال مال المرء فهو ذليل وأن لسان المرء ما لم تكن له
حصاة على عوراته لدليل



أم الأعور الشني حيث يقول:


لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فهل بعد إلا صورة اللحم والدم
وكائن ترى من ساكت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم



أم عبد الرحمن بن حسان حيث يقول:


ترى المرء مخلوقا وللعين حظها وليس بإخفاء الأمور بخابر
وذاك كماء البحر لست مسيغه ويعجب منه ساجيا كل ناظر



فقال الهيثم : هيهات، الأعور أشعرنا .




الخدمات العلمية