الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
أما الغضب فيعالجه بما سيأتي في كتاب آفات الغضب وهو أن يقول : إني إذا أمضيت غضبي عليه فلعل الله تعالى يمضي غضبه علي بسبب الغيبة ، إذ نهاني عنها فاجترأت على نهيه واستخففت بزجره وقد قال صلى الله عليه وسلم : إن لجهنم بابا لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى .

وقال صلى الله عليه وسلم : من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه .

وقال صلى الله عليه وسلم : من كظم غيظا وهو يقدر على أن يمضيه ، دعاه الله تعالى يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء وفي بعض الكتب المنزلة على بعض النبيين " يا ابن آدم ، اذكرني حين تغضب ، أذكرك حين أغضب ، فلا أمحقك فيمن أمحق .

" وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين فكيف ترضى لنفسك أن توقر غيرك وتحقر مولاك فتترك رضاه لرضاهم ، إلا أن يكون غضبك لله تعالى ، وذلك لا يوجب أن نذكر المغضوب عليه بسوء بل ينبغي أن تغضب لله أيضا على رفقائك إذا ذكروه بالسوء ؛ فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب ، وهي الغيبة .

وأما تنزيه النفس بنسبة الغير إلى الخيانة ، حيث يستغنى عن ذكر الغير ، فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوقين ، وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله يقينا ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا ، فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم ، وتهلك في الآخرة وتخسر حسناتك بالحقيقة ، ويحصل لك ذم الله تعالى نقدا وتنتظر دفع ذم الخلق نسيئة ، وهذا غاية الجهل والخذلان .

، وأما عذرك كقولك : إن أكلت الحرام ففلان يأكله وإن قبلت مال السلطان ففلان يقبله فهذا جهل ; لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله تعالى لا يقتدى به ، كائنا من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ، ولو وافقته لسفه عقلك .

ففيما ذكرته غيبة وزيادة معصية ، أضفتها إلى ما اعتذرت عنه ، وسجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك ، وكنت كالشاة تنظر إلى المعزى تردي نفسها من قلة الجبل فهي أيضا تردي نفسها ، ولو كان لها لسان ناطق بالعذر وصرخت بالعذر ، وقالت : العنز أكيس مني ، وقد أهلكت نفسها ، فكذلك أنا أفعل . لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها ثم لا تعجب ولا تضحك من نفسك .

! وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك ، فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته به أبطلت فضلك عند الله وأنت من ، اعتقاد الناس فضلك على خطر ، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقينا بما عند المخلوقين وهما ولو حصل لك من المخلوقين اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئا .

وأما الغيبة لأجل الحسد فهو جمع بين عذابين ; لأنك حسدته على نعمة الدنيا ، وكنت في الدنيا معذبا بالحسد ، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة ، فكنت خاسرا نفسك في الدنيا ، فصرت أيضا خاسرا في الآخرة .

لتجمع بين النكالين ، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك ، وأهديت إليه حسناتك ، فإذا أنت صديقه ، وعدو نفسك ، إذ لا تضره غيبتك ، وتضرك وتنفعه ؛ إذ تنقل إليه حسناتك أو تنقل ، إليك سيئاته ولا ، تنفعك ، وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك ، كما قيل:

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود

وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى ، وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام فلو تفكرت في حسرتك وجنايتك وخجلتك وخزيك يوم القيامة يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منك ، فإنك سخرت به عند نفر قليل وعرضت نفسك ، لأن يأخذ يوم القيامة بيدك على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار ، مستهزئا بك ، وفرحا بخزيك ومسرورا بنصرة الله تعالى إياه عليك ، وتسلطه على الانتقام منك .

وأما الرحمة له على إثمه فهو حسن ولكن حسدك إبليس فأضلك واستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك ، فيكون جبرا لإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحوما ، وتنقلب أنت مستحقا لأن تكون مرحوما ، إذ حبط أجرك ، ونقصت من حسناتك ، وكذلك الغضب لله تعالى ، لا يوجد الغيبة ، وإنما الشيطان حبب إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك ، وتصير معرضا لمقت الله عز وجل بالغيبة .

وأما التعجب إذا أخرجك إلى الغيبة ، فتعجب من نفسك أنت كيف أهلكت نفسك ودينك بدين غيرك ، أو بدنياه ، وأنت مع ذلك لا تأمن عقوبة الدنيا ، وهو أن يهتك الله سترك كما هتكت بالتعجب ستر أخيك .

فإذن ، علاج جميع ذلك المعرفة فقط والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف لسانه عن الغيبة لا محالة .

التالي السابق


(أما الغضب فيعالجه بما سيأتي) في الذي يليه في كتاب ذم الغضب، (وهو أن يقول: إني إذا أمضيت غضبي عليه لعل الله يمضي غضبه علي بسبب الغيبة، إذ نهاني عنها) فقال: ولا يغتب بعضكم بعضا ، (فاجترأت على الله تعالى) بمخالفتي له، (واستخففت بزجره) ، فلم أعمل به، (وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن لجهنم بابا) أي: عظيم المشقة، (لا يدخل منه) ، وفي رواية: لا يدخله (إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى ) أي: أزال شدة حنقه بإيصال المكروه إلى المغتاظ عليه على وجه لا يجوز شرعا; لأن الغضب الكائن كالداء، فإذا زال بما يطلبه الإنسان من عدوه فكأنه برئ من دائه. قال العراقي : رواه البزار وابن أبي الدنيا وابن عدي ، والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بسند ضعيف. اهـ .

قلت: لفظ البزار : "بسخط الله"، بدل "بمعصية الله"، وفي سنده قدامة بن محمد عن إسماعيل بن شيبة ، وهما ضعيفان، وقد وثقا، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الغضب، وابن عدي في الكامل في ترجمة قدامة بن محمد .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه ) قال العراقي : رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث سهل بن سعد بسند ضعيف، ورويناه في الأربعين البلدانية للسلفي. اهـ .

قلت: ورواه كذلك ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى، وابن النجار في ذيل التاريخ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من كظم غيظا وهو يقدر على أن يمضيه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد حتى يخيره في أي الحور شاء ) قال العراقي : رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس . اهـ .

قلت: ورواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه بلفظ: "من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه، خيره الله من الحور العين يوم القيامة" . الحديث، ولفظ أبي داود والترمذي : "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء" . وكذلك رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب، والطبراني والبيهقي ، ورواه أحمد بلفظ: "من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره في الحور العين أيتهن شاء" . الحديث .

وروى ابن أبي الدنيا في ذم الغضب من حديث ابن عمر : "من كظم غيظا، ولو شاء أن يمضيه لأمضاه، ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا" . (وفي بعض الكتب) السماوية: ("يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب، أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق") رواه ابن شاهين في كتاب الترغيب في الذكر عن ابن عباس ، وفيه عثمان بن عطاء الخراساني ، ضعفوه، (وأما الموافقة) مع الرفقاء، (فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين) ، ففي حديث عائشة : "من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس" . رواه أبو نعيم في الحلية، (فكيف ترضى لنفسك أن توقر غيرك) وترضيه، (وتحقر مولاك وتترك رضاه لرضاهم، إلا أن يكون غضبك لله تعالى، وذلك يوجب ألا تذكر المغضوب عليه بسوء) أصلا، (بل ينبغي أن تغضب لله أيضا على رفقائك إذا ذكروه بالسوء؛ فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب، وهي الغيبة، وأما تنزيه النفس بنسبة الغير إلى الخيانة، حيث يستغني عن ذكر الغير، فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوقين، وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى يقينا) ؛ لاستخفافك بزجره، (ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا، فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم، وتهلك في الآخرة وتخسر حسناتك بالحقيقة، ويحصل لك ذم الله عز وجل نقدا) حاضرا [ ص: 550 ] (وتنتظر رفع ذم الخلق نسيئة، وهذا غاية الجهل، و) نهاية (الخذلان) نعوذ بالله من ذلك، (وأما عذرك بقولك: إن أكلت الحرام ففلان يأكله) ويشربه، إلى شخص معين من المشهورين بالعلم والصلاح، (وإن قبلت مال السلطان ففلان يقبله) ، ويشير كذلك إلى أحد من أهل عصره ممن يشار إليه بالفضل، (فهذا جهل; لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به) ، ولا اتباع طريقته، (فإن من خالف أمر الله تعالى لا يقتدى به، كائنا من كان) ، والباطل لا يكون مقيسا عليه، (ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على ألا تدخلها لم توافقه، ولو وافقته لسفه عقلك) ، وضل رشدك، (فما ذكرته غيبة وزيادة معصية، أضفتها إلى ما اعتذرت عنه، وسجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك، وعدوانك، وكنت كالشاة تنظر إلى المعزى تردي نفسها) أي: تسقطها (من قلة الجبل) أي: من أعلاه، (فهي أيضا تردي نفسها، ولو كان لها) أي: للشاة، (لسان تنطق بالعذر لصرحت بالعذر، وقالت: العنز أكيس مني، وقد أهلكت نفسها، فكذلك أفعل. لكنت تضحك من جهلها) هو جواب شرط مقدر، (وحالك مثل حالها) ، وعذرك مثل عذرها، (ثم لا تعجب ولا تضحك على نفسك!) ، وتعجب من تقليد الشاة للمعزى في التردي، وتضحك عليها، (وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك، فينبغي أن تعلم أنك بما قد ذكرته به أبطلت فضلك عند الله، فإنك في اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس) في أعراضهم، (فتكون قد بعت ما عند الخالق يقينا بما عند المخلوقين وهما) ، وظنا، (ولو حصل لك من المخلوقين اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئا، وأما الغيبة لأجل الحسد فهو جمع بين عذابين; لأنك حسدته على نعمة الدنيا، وكنت في الدنيا معذبا بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة، فتجمع بين النكالين، فكنت خاسرا نفسك في الدنيا، فصرت أيضا خاسرا نفسك في الآخرة، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك، وأهديت إليه حسناتك، فإذا أنت صديقه، وعدو نفسك، إذ لا تضره غيبتك، وتضرك وتنفعه؛ إذ تنقل إليه حسناتك، وتنقل إليك سيئاته، فلا تنفعك، وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة) ، وقلة العقل، (وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك، كما قيل:


وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود )



طويت، أي: أخفيت، وأتاح: ساق وقدر، (وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس) ، أي: إفضاحه، (بإخزاء نفسك عند الله تعالى، وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام) في يوم تجتمع فيه الخلائق، (فلو تفكرت في حسرتك) وندامتك (وجنايتك) التي جنيتها، (وخجلتك وخزيك يوم القيامة) بين يدي هؤلاء، (تحمل سيئات غيرك الذي استهزأت به) في الدنيا، (وتساق) بسبب ذلك (إلى النار) ، ودار البوار (لأدهشك ذلك) أي: أوقعك في الدهشة (عن إخزاء أخيك) في الدنيا، (ولو عرفت حالك) التي تؤول إليها (لكنت أولى من يضحك منك، فإنك سخرت منه عند نفر قليل) ، وهم رفقاؤك، (وعرضت نفسك، لأن يؤخذ يوم القيامة بيدك على ملأ من الناس ويسوقك) الذي استهزأت به، (تحت سيئاته كما [ ص: 551 ] يساق الحمار) ذليلا منقادا (إلى النار، مستهزئا بك، وفرحا بخزيك) وفضيحتك، (ومسرورا بنصرة الله تعالى إياها عليك، وتسلطه على الانتقام منك، وأما الرحمة) والتحنن (له على إثمه) الذي ابتلي به، (فهو حسن) في نفسه، (ولكن حسدك إبليس فأضلك) عن الطريق، (واستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك، فيكون جبر الإثم المرحوم) المشفق عليه، (فيخرج) بذلك (عن كونه مرحوما، وتنقلب أنت مستحقا لأن تكون مرحوما، إذ حبط أجرك، ونقصت من حسناتك، وكذلك الغضب لله عز وجل، لا يوجب الغيبة، وإنما الشيطان حبب إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك، وتصير معرضا لمقت الله تعالى بالغيبة، وأما التعجب إذا أخرجك إلى الغيبة ، فتعجب من نفسك أنك كيف أهلكت نفسك ودينك بدين غيرك، أو بدنياه، وأنت مع ذلك لا تأمن عقوبة الدنيا، وهو أن يهتك الله سترك) ويفضحك (كما هتكت ستر أخيك) ، وفضحته (بالتعجب، فإذا علاج جميع ذلك المعرفة فقط) ، وهي العلم، (والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان) ومداخله، (فمن قوي إيمانه بجميع ذلك) انشرح صدره لمعرفته، واتسع النور فيه، وأقبل على مولاه بكليته، و (انكشف لسانه عن الغيبة لا محالة) .




الخدمات العلمية