الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقيل في قوله تعالى ربانيين : أي : حلماء علماء .

وعن الحسن في قوله تعالى : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، قال : حلماء ; إن جهل عليهم لم يجهلوا وقال عطاء بن أبي رباح يمشون على الأرض هونا ، أي حلماء : وقال ابن أبي حبيب في قوله عز وجل وكهلا قاله : الكهل منتهى الحلم وقال مجاهد وإذا مروا باللغو مروا كراما ، أي : إذا أوذوا صفحوا .

وروي أن ابن مسعود مر بلغو معرضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ، ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وهو الراوي قوله تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم لا يدركني ، ولا أدركه زمان لا يتبعون فيه العليم ، ولا يستحيون فيه من الحليم ، قلوبهم قلوب العجم ، وألسنتهم ألسنة العرب وقال صلى الله عليه وسلم ليليني : منكم ذوو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق .

وروي أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم الأشج فأناخ راحلته ، ثم عقلها وطرح عنه ثوبين كانا عليه . وأخرج من العيبة ثوبين حسنين ، فلبسهما ، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ما يصنع ثم أقبل يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام : إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله قال : ما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال : الحلم والأناة فقال خلتان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما فقال بل : خلقان جبلك الله عليهما فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله .

وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب الحليم الحيي الغني المتعفف أبا العيال التقي ويبغض الفاحش البذي السائل الملحف الغبي .

وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله: تقوى تحجزه عن معاصي الله عز وجل، وحلم يكف به السفيه، وخلق يعيش به في الناس .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله : : الخلائق يوم القيامة نادى مناد أين أهل الفضل ? فيقوم ناس ، وهم يسير فينطلقون سراعا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم ، إنا نراكم سراعا إلى الجنة فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون لهم : ما كان فضلكم ? فيقولون : كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا عفونا وإذا جهل علينا حلمنا فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فنعم أجر العاملين .

التالي السابق


(وقيل في قوله تعالى: كونوا ربانيين ، أي: حلماء علماء) ، وتقدم في كتاب العلم (وعن الحسن) البصري - رحمه الله تعالى - (في قوله تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، قال: حلماء; إن جهل عليهم لم يجهلوا) .

أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن الحسن، قال: يمشون على الأرض هونا الآية، قال: يمشون حلماء متواضعين لا يجهلون على أحد، وإن جهل [ ص: 30 ] عليهم لم يجهلوا.

وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن في حديث طويل ذكر فيه: فنعتهم الله في القرآن أحسن نعت، فقال: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، قال: حلماء لا يجهلون على أحد، وإن جهل عليهم حلموا، وقال مجاهد: سلاما، أي: سدادا من القول .

رواه الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وقال الفضيل بن عياض: سلاما، أي: إن جهل عليه حلم، وأن أسيء إليه أحسن، وإن حرم أعطى، وإن قطع وصل .

أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق، وعن سعيد بن جبير، قال: سلاما، أي: ردا معروفا .

أخرجه ابن أبي حاتم (وقال عطاء بن أبي رباح) - رحمه الله تعالى -: ( يمشون على الأرض هونا ، أي: حلما) .

أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي عمران الجوني، قال: هونا، أي: حلماء بالعبرانية، وعن ميمون بن مهران، قال: بالسريانية، وقال ابن عباس: هونا ، أي: بالطاعة، والعقاب، والتواضع .

أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وقال مجاهد: هونا ، أي: بوقار وسكينة .

أخرجه عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، والبيهقي في الشعب، وروي مثله عن الفضيل بن عياض.

أخرجه الخرائطي في المكارم، وقال ابن عباس: هونا ، أي: محلما حلما .

أخرجه ابن أبي حاتم، وعن يزيد بن أسلم: هونا: لا يشتدون .

أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعن قتادة: هونا ، أي: تواضعا لعظمته .

أخرجه ابن أبي حاتم، وعن الحسن: هونا: حلماء متواضعين .

أخرجه البيهقي في الشعب (وقال ابن أبي حبيب) هو يزيد بن أبي حبيب أبو رجاء المصري، واسم أبيه سويد، ثقة، فقيه، مات سنة ثمان وعشرين، روى له الجماعة (في قوله) تعالى: ( وكهلا ) ، ومن الصالحين (قال: الكهل منتهى الحلم) اعلم أن سن الكهولة هو سن الانحطاط مع بقاء من القوة، وهو من الأربعين إلى نحو من ستين سنة، ثم إن الحلم هنا بالضم بمعنى العقل، أي: سن الكهولة، والذي ينتهي إليه كمال العقل، ثم لا يزيد، والمناسب لسياق المصنف أن يكون بكسر الحاء بمعنى ضبط النفس عند هيجان الغضب، أي: هذه القوة منتهاها في هذا السن، فتأمل، وسيأتي لذلك تحقيق قريبا .

(وقال مجاهد) في قوله تعالى: ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ، أي: إذا أوذوا صفحوا) .

أخرجه الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب (وروي أن ابن مسعود) - رضي الله عنه - (مر بلغو معرضا) ، ولم يقف (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : لقد (أصبح ابن مسعود أو) قال: (أمسى كريما، ثم تلا إبراهيم بن ميسرة) الطائفي، نزيل مكة، ثبت حافظ، مات سنة ثنتين وثلاثين، روى له الجماعة (وهو الراوي) لهذا الحديث (قوله تعالى: وإذا مروا باللغو مروا كراما ) .

قال العراقي: رواه ابن المبارك في البر والصلة بإسناد منقطع. انتهى .

قلت: وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم، وابن عساكر، كلهم من طريق إبراهيم بن ميسرة، قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلغو معرضا، ولم يقف، فذكره (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يدركني، ولا أدركه زمان لا يتبعون فيه العليم، ولا يستحيون فيه من الحليم، قلوبهم قلوب العجم، وألسنتهم ألسنة العرب) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث سهل بن سعد بسند ضعيف. انتهى .

قلت: وقد روي نحوه من حديث علي، رواه الديلمي، ولفظه: يأتي على الناس زمان لا يتبع فيه العالم، ولا يستحى فيه من الحليم، ولا يوقر فيه الكبير، ولا يرحم فيه الصغير، يقتل بعضهم بعضا، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، يمشي الصالح منهم مستخفيا، أولئك شرار خلق الله، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.

(وقال صلى الله عليه وسلم: ليلني) بكسر اللامين، وخفة النون من غير ياء قبل النون، وبإثباتها مع شدة النون على التأكيد .

هكذا ضبطه النووي بالوجهين، وقال الطيبي: حق هذا اللفظ أن تحذف منه الياء; لأنه على صيغة الأمر، وقد وجد بإثبات الياء، وسكونها في سائر كتب الحديث، والظاهر أنه غلط (منكم) ، أي: ليدنون مني منكم يا أصحابي (ذوو الأحلام) ، وفي لفظ: أولو الأحلام، أي: العقول (والنهى) جمع نهية بالضم، وهي العقل الناهي عن القبائح .

هكذا فسره غير واحد، وفيه لزوم التكرار من غير ضرورة داعية، والأولى أن يفسر ذوو الأحلام بالبالغين، والحلم بالضم ما يراه النائم، وقد غلب استعماله فيما [ ص: 31 ] يراه من دلالة البلوغ، فدلالته على البلوغ التزامية، (ثم الذين يلونهم) ، أي: يقربون منهم في الوصف; كالمراهقين، (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين، (ولا تختلفوا فتختلف) بالنصب (قلوبكم) ، أي: تراصوا في الصفوف، وليقرب بعضكم بعضا، ولا يختلف، فإن الاختلاف الظاهر يورث اختلاف الباطن، وإياكم وهيشات الأسواق، جمع هيشة، وهي الفتنة، والاضطراب، أي: مختلطات الأصوات، وجماعاتها، والمعنى: لا تكونوا مختلطين اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز الذكور من الإناث، ولا الصبيان من البالغين .

والظاهر من سياق المصنف لهذا الحديث هناك: أن المراد بالأحلام هنا جمع الحلم بالكسر، أي: أصحاب هذه الصفة، أي: أهل الوقار والسكينة، وهم أشراف الصحابة، وسابقوهم، ويدل على ذلك حديث ابن مسعود عند الحاكم: ليليني منكم الذين يأخذون عني، أي: الصلاة، أي: لشرفهم، ومزيد فضلهم، وعلى هذا فلا يكون في الحديث تكرار .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي مسعود دون قوله: ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، فهي عند أبي داود، والترمذي، وحسنه، وهي عند مسلم في حديث آخر لأبي مسعود . ا ه .

قلت: وكذلك رواه عبد الرزاق، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: هو على شرط البخاري، وقال الترمذي في العلل: سألت البخاري عن هذا السؤال، فقال: أرجوا أن يكون محفوظا، ورواه أحمد، وابن حبان، والطبراني، والنسائي من حديث ابن مسعود، (وروي أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأشج) العبدي، ويقال له: أشج عبد القيس، وأشج بني عصر، مشهور بلقبه، واسمه المنذر بن عابدين الحرث، قال الواقدي: كان قدوم الأشج ومن معه سنة عشر من الهجرة، وقيل: سنة ثمان، قبل فتح مكة (فأناخ راحلته، ثم عقلها) ، أي: حبسها بعقال، (ثم طرح عنه ثوبين كانا عليه .

وأخرج من العيبة) وهي شبه الخرج (ثوبين حسنين أبيضين، فلبسهما، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع) ، أي: بمرأى منه، وكان قد تخلف عن أصحابه، وهو أصغرهم سنا، وهم أقبلوا بثياب سفرهم، فقابلوا النبي صلى الله عليه وسلم، (ثم أقبل يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فقبل يده (فقال صلى الله عليه وسلم: يا أشج) - ناداه بلقبه المشهور به - (إن فيك خلقين) بضمتين، وفي رواية: لخصلتين مثنى خصلة (يحبهما الله ورسوله، فقال: ما هما بأبي أنت وأمي؟ فقال: الحلم) بالكسر، أي: العقل (والإناة) بالكسر، أي: التثبت وعدم العجلة، (فقال) يا رسول الله: (خلقان تخلقتهما) ، أي: تكفلتهما، (أو خلقان جبلتهما) ، أي: جبلني الله عليهما (قال: بلى، خلقان جبلك الله عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني خلقين يحبهما الله ورسوله) ، وهذا لا يناقضه النهي عن مدح المؤمن في وجهه، فإن ما كان من النبوة، فهو وحي، والوحي لا يجوز كتمه، أو أنه صلى الله عليه وسلم علم من حاله أنه لا يلحقه به الإعجاب، فأخبره بذلك ليزداد لزوما له، ويشكر الله على ما منحه .

قال العراقي: متفق عليه .

قلت: ورواه مسلم في الإيمان، والترمذي في البر من حديث ابن عباس، ورواه أحمد من حديث الوازع، ورواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد إلا أنه قال: التؤدة بدل الإناة، وهي بمعناها، (وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب الحليم) ، أي: صاحب الحلم (الحيي) ، أي: كثير الحياء (الغني) عن الناس لقلة حاجته إليهم (المتعفف) عن السؤال لهم، (ويبغض الفاحش البذي) خبيث اللسان يتكلم بالهذر من القول (السائل الملحف) ، أي: الملح .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث فاطمة بسند ضعيف دون قوله: الغني، ولمسلم من حديث سعد: إن الله يحب العبد التقي الحفي. ا ه .

قلت: روى أحمد، ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص: إن الله يحب العبد الغني الحفي، وروى ابن ماجه من حديث عمران: إن الله يحب عبده المؤمن الغني المتعفف، وروى أحمد من حديث أسامة بن زيد: إن الله يبغض الفاحش المتفحش، وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أبي هريرة: إن الله يبغض السائل الملحف، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث) خصال (من لم تكن فيه) خصلة واحدة منهن (فلا تعتدن) ، أي: لا تعتبرن (بشيء من عمله: تقوى) ، أي: كف عن المحارم والشبهات (تحجزه عن معاصي الله) ، ومحارمه (وحلم يكف به أذى السفيه) ، فلا يرد عليه بمثل صنعه، بل بالعفو، والصفح، واحتمال الأذى، ونحو ذلك (وخلق) بضم اللام (يعيش به في الناس) ، [ ص: 32 ] بأن تكون عنده ملكة يقتدر بها على مداراتهم، ومسالمتهم; ليسلم من شرهم .

قال العراقي: رواه أبو نعيم في كتاب الإيجاز بإسناد ضعيف، والطبراني من حديث أم سلمة بإسناد لين، وقد تقدم في آداب الصحبة .

قلت: ورواه البزار من حديث أنس بلفظ: ثلاث من كن فيه فقد استوجب الثواب، واستكمل الإيمان: خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله تعالى، وحلم يرده عن جهل جاهل، وفيه عبد الله بن سليمان، تكلم فيه .

وأخرجه البيهقي من حديث الحسن مرسلا بلفظ: ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن كان الكلب خيرا منه: ورع يحجزه عن محارم الله - عز وجل -، أو حلم يرد به جهل جاهل، أو حسن خلق يعيش به في الناس.

(وقال صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمع الخلائق يوم القيامة) ، وفي نسخة: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة (نادى مناد) من بطنان العرش: (أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس، وهم يسير) ، أي: قليل (فينطلقون سراعا إلى الجنة) ، أي: مسرعين إليها (فتتلقاهم الملائكة، فيقولون) لهم: (إنا نراكم سراعا إلى الجنة) ، أي: فما السبب في ذلك؟ (فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظلمنا) ، أي: ظلمنا غيرنا (صبرنا) على ظلمهم، (وإذا أسيء إلينا غفرنا) ، أي: صفحنا عن إساءتهم (وإذا جهل علينا حلمنا) ، أي: قابلنا جهلهم بالحلم (فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين) .

قال العراقي: رواه البيهقي في الشعب من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال البيهقي: في إسناده ضعف .




الخدمات العلمية