الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم .

مهما عرفت أن معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال ، فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا ، وينقطع بالموت كالمال ، والدنيا مزرعة الآخرة فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة ، وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق ، والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله له فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام ، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاذ يرشده ، وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم وحبه ، لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم فإن الجاه وسيلة إلى الأغراض كالمال ، فلا فرق بينهما ، إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له ، بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء فهذا ، على التحقيق ليس محبا لبيت الماء ، فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه .

وتدرك التفرقة بمثال آخر ، وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة كما يدفع ببيت الماء فضلة الطعام ولو كفي مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما أنه لو كفي قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به وقد يحب الإنسان زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفي الشهوة لبقي مستصحبا لنكاحها ، فهذا هو الحب دون الأول وكذلك ، الجاه والمال .

وقد ، يحب كل واحد منهما على هذين الوجهين ، فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم ، وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ، ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية .

وما لم يتوصل إلى اكتسابه بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين ، وهو حرام ، وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي .

فإن قلت طلبه المنزلة والجاه : في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيفما كان أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص ؟ فأقول : يطلب ذلك على ثلاثة أوجه ، وجهان مباحان ، ووجه محظور .

أما الوجه المحظور : فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها مثل العلم والورع والنسب ، فيظهر لهم أنه علوي أو عالم ، أو ورع وهو لا ، يكون كذلك .

فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة .

وأما أحد المباحين : فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه الرب تعالى اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما وكان ، محتاجا إليه وكان صادقا فيه .

والثاني : أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ، ومعصية من معاصيه ؛ حتى لا يعلم فلا ، تزول منزلته به ، فهذا أيضا مباح ؛ لأن حفظ الستر على القبائح جائز ، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح .

وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به ، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر ، ولا يلقي إليه أنه ورع ، فإن قوله : إني ورع ، تلبيس وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع ، بل يمنع العلم بالشرب .

التالي السابق


(بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم) *

(مهما عرفت أن معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال، فإنه غرض من) جملة [ ص: 249 ] (أغراض الحياة الدنيا، وينقطع بالموت كالمال، والدنيا مزرعة للآخرة) أي: بمنزلة المزرعة التي يحصد منها للتزود للآخرة (فكل ما خلق الله في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة، وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق، والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله) لقوام بدنه (فيجوز أن يحب الطعام) ضرورة (و) كذا (المال الذي يبتاع) أي: يشتري (به الطعام، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه) في حاجاته الضرورية (ورفيق يعينه على أموره، وسلطان يحرسه) بمنعته (ويدفع عنه ظلم الأشرار) وكيد الفجار (فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة) ويبعثه عليها (ليس بمذموم، و) كذا (حبه لأن يكون له في قلب رقيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم) أيضا .

(و) يلتحق بذلك (حبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده) إلى طريق الحق (وتعليمه والعناية به ليس بمذموم) أيضا (و) كذا (حبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه) المتولي أمور السياسة (ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه) من خارج (ليس بمذموم) أيضا .

(فإن الجاه وسيلة إلى الأغراض كالمال، فلا فرق بينهما، إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه في أعيانهما محبوبين، بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء) وهو موضع قضاء الحاجة (لأنه يضطر إليه) لا محالة (لقضاء حاجته) ولا يستغني عنه (ويود) أنه (لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت المال، وهذا على التحقيق ليس بحب بيت الماء، فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه، وتدرك التفرقة) في ذلك (بمثال آخر، وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة) المتحصلة من آثار الطعام (كما يدفع ببيت الماء فضلة الطعام) وهو الكيموس (ولو كفي مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته) ولا يحبها أصلا (كما أنه لو كفي قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به) أصلا .

(و) لكنه (قد يحب زوجته لذاتها) لجمالها وحسن أخلاقها (حب العشاق) ولا يتصور في ذهنه قضاء وطر الشهوة منها (ولو كفي الشهوة) من أصلها (لبقي مستصحبا لنكاحها، فهذا الحب دون الأول، فكذلك الجاه والمال، قد يحب كل واحد منهما على هذين الوجهين، فحبهما لأجل التوصل إلى مهمات البدن) الضرورية (غير مذموم، وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورات البدن وحاجته مذموم، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان، ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية) من المعاصي (وما لم يتوصل إلى اكتسابه بكذب وخداع وارتكاب محظور) شرعي (وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة) دينية (فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين، وهو حرام، وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي) قريبا .

(فإن قلت: طلب الجاه والمنزلة في قلوب) كل من (أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره) هل هو (مباح على الإطلاق كيفما كان أو يباح على حد مخصوص؟

فأقول: يطلب ذلك على ثلاثة أوجه، [ ص: 250 ] وجهان منها مباحان، ووجه منها محظور .

أما الوجه المحظور: فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة هو منفك عنها) أي: غير متصف بها (مثل العلم والورع والنسب، فيظهر لهم أنه علوي) أي: من أولاد علي، أو حسني، أو حسيني، أو فاطمي، أو عباسي، أو غير ذلك من الأنساب المشهورة (أو عالم، أو ورع، ولا يكون) في نفس الأمر كذلك، فهذا حرام؛ لأنه تلبيس وكذب، إما بالقول بأن ينطق بلسانه ويصرح به (وإما بالمعاملة) فيتزيا بهيئة العلماء الجارية عوائدهم بها في كل عصر وبلاد، أو بهيئة الزهاد، أو يجعل على رأسه من الخضرة ما يشير للناس أنه علوي .

وكذا كل من زعم فيه أنه عالم، أو ورع، أو علوي، وهو يعرف أنه ليس كذلك، فسكت على زعمه فيه، فهو كالمقر له على ذلك، وهو أيضا حرام، بل يجب عليه أن يقول: لست بعالم، لست بورع، لست بعلوي .

(وأما المباح: فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها) لغرض صحيح (كقول يوسف عليه السلام) لعزيز مصر ( اجعلني على خزائن الأرض ) أي: ولني أمرها، والأرض أرض مصر ( إني حفيظ ) لها عمن لا يستحقها ( عليم ) بوجوه التصرف فيها (فإنه) عليه السلام (طلب منزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما، فكان محتاجا إليه) إذ رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة، فآثر ما يعم فوائده، فقال ما قال (وكان صادقا فيه) متصفا بالحفظ والعلم، وقيل: حفيظ على ما استودعت عليهم، كاتب حاسب .

(والثاني: أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه، ومعصية من معاصيه؛ حتى لا يعلم، ولا تزول به منزلته، فهذا أيضا مباح؛ لأن حفظ الستر على القبائح جائز، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح) على نفسه، كما لا يجوز على غيره (فهذا ليس فيه تلبيس) على باطل (بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر، ولا يلقي إليه أنه ورع، فإن قوله: إني ورع، تلبيس) بلا شك (وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاده الورع، بل يمنع العلم بالشرب) فقط .




الخدمات العلمية