الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان السبب في حب المدح والثناء وارتياح النفس به ، وميل الطبع إليه ، وبغضها .

للذم ، ونفرتها منه .

، اعلم أن لحب المدح ، والتذاذ القلب به أربعة أسباب :

السبب الأول وهو الأقوى شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب ، وكل محبوب فإدراكه لذيذ .

فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واهتزت ، وتلذذت ، والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها ، فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جليا ظاهرا أو يكون مشكوكا فيه ، فإن كان جليا ظاهرا محسوسا كانت اللذة به أقل ، ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون ، فإن هذا نوع كمال ، ولكن النفس تغفل عنه ، فتخلو عن لذته ، فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة . وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم ، كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال ، الورع ، أو بالحسن المطلق ، فإن الإنسان ربما يكون شاكا في كمال حسنه وفي كمال ، علمه وكمال ورعه ، ويكون مشتاقا إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقنا لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه ، فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذته وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات ، خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق ذلك ، كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل ، فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام ، أو لا يكون بصيرا بذلك الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضا ويكرهه ؛ لأنه يشعره بنقصان نفسه ، والنقصان ضد الكمال المحبوب ، فهو ممقوت والشعور ، به مؤلم ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به ، كما ذكرناه في المدح .

السبب الثاني : أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح ، وأنه مريد له ، ومعتقد فيه ، ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب ، والشعور بحصوله لذيذ ، وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه ، كالملوك والأكابر ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة ، وبهذه العلة أيضا يكره الذم ، ويتألم به القلب ، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم ؛ لأن الفائت به أعظم .

السبب الثالث : أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه ، لا سيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ، ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملإ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ ، والذم أشد على النفس .

السبب الرابع : أن المدح يدل على حشمة الممدوح ، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح ، إما عن طوع وإما عن قهر ؛ فإن الحشمة أيضا لذيذة ؛ لما فيها من القهر والقدرة ، وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به ، ولكن كونه مضطرا إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه ، فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته ، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد .

فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد ، فيعظم بها الالتذاذ ، وقد تفترق فتنقص اللذة بها .

أما ، العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله ، كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم بعلم ، أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك ، فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال ، وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه ، وعلى لسانه ، وبقية اللذات . فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ، ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت ، اللذة الثانية ، وهو استيلاؤه على قلبه وتبقى ، لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء . فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلب اللذات كلها ، فلم يكن فيه أصلا لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم .

وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض .

والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى .

.

التالي السابق


(بيان السبب في حب المدح والثناء) *

(وارتياح النفس به، وميل الطباع إليه، وبغضها الذم، ونفرتها عنه، اعلم) وفقك الله تعالى (أن لحب المدح، والتذاذ القلب به أربعة أسباب:

السبب الأول) منها (وهو الأقوى) وفي نسخة: وهو أقواها: (شعور النفس بالكمال) أي: تشعر بأنها كاملة (فإنا) قد (بينا) آنفا (أن الكمال محبوب، وكل محبوب فإدراكه لذيذ، فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واهتزت طربا، وتلذذت، والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها، فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جليا ظاهرا أو يكون مشكوكا فيه، فإن كان جليا ظاهرا محسوسا كانت اللذة فيه أقل، ولكنه لا يخلو عن لذة) ما (كثنائه عليه بأنه طويل القامة) تام القد (أبيض اللون، فإن هذا نوع كمال، ولكن النفس تغفل عنه، فتخلو عن لذته، فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة .

[ ص: 251 ] وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم وأقوى، كالثناء عليه بكمال العلم، وكمال الورع، أو بالحسن المطلق، فإن الإنسان ربما يكون شاكا في كمال حسنه، وكمال علمه وورعه، ويكون مشتاقا إلى زوال هذا الشك بأن يكون مستيقنا بكونه عديم النظير في هذه الأمور) المذكورة (إذ تطمئن نفسه إليه، فإذا ذكره غيره أورثه ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال) له (فتعظم لذته) وارتياحه (وإنما تعظم اللذة لهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات، خبير بها) عارف بأنواعها، مميز لجيدها من رديها (لا يحرف في القول إلا عن تحقيق، وذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة) الفهم، ووفور (الفضل، فإنه في غاية اللذة) والارتياح .

(وإن صدر ممن يجزف) وفي نسخة: يجازف (في الكلام، أو لا يكون بصيرا في ذلك الوصف ضعفت اللذة) وقل الارتياح (وبهذه العلة يبغض الذم أيضا ويكرهه؛ لأنه يشعر بنقصان نفسه، والنقصان ضد الكمال المحبوب، فهو ممقوت، والشعور به مؤلم) للطبع (ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به، كما ذكرناه في المدح .

السبب الثاني: أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح، وأنه مريد له، ومعتقد فيه، ومسخر تحت مشيئته) مطيع له في سائر أحواله (وملك القلوب محبوب، والشعور بحصوله لذيذ، وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته) ويطول باعه (وينتفع باقتناص قلبه، كالملوك والأكابر) وأرباب الأموال (ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له) ولا يشار إليه (ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير) ليس له قدر (فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة، وبهذه العلة أيضا يكره الذم، ويتألم به القلب، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم؛ لأن الفائت به أعظم .

السبب الثالث: أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لا سيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله، ويعتد بثنائه) وتعقد عليه الخناصر (وهذا مختص بثناء يقع على الملأ) أي: الجماعة من أشراف القوم (فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ، والذم أشد على النفس .

السبب الرابع: أن المدح يدل على حشمة الممدوح، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء عليه، إما عن طوع) أي: من عند نفسه، غير مقهور عليه (وإما عن قهر؛ فإن الحشمة أيضا لذيذة؛ لما فيها من القهر والقدرة، وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به، ولكن كونه مضطرا إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه، فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد .

فهذه الأسباب الأربعة قد تجتمع في مدح مادح واحد، فيعظم بها الالتذاذ، وقد تفترق) فلا يوجد إلا بعضها (فتنقص اللذة بها، فأما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح) المثني عليه (أنه) أي: المادح (غير صادق) في قوله (في مدحه، كما إذا مدح بأنه نسيب) أي: ذو نسب عال (أو سخي) أي: كريم يجود بالأموال (أو عالم بعلم، أو متورع عن المحظورات) الشرعية (وهو يعلم من [ ص: 252 ] نفسه ضد ذلك، فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال، وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه، وعلى لسانه، وبقية اللذات .

فإن كان يعلم أن المادح ليس بمعتقد ما يقوله، ويعلم خلوه عن هذه الصفة، بطلت اللذة الثانية، وهو استيلاؤه على قلبه، وبقيت لذة الاستيلاء بالحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء .

فإن لم يكن ذلك عن خوف) وقهر (بل كان بطريق اللعب والمزاح بطلت اللذات كلها، فلم تكن فيها أصلا لذة لفوات الأسباب الثلاثة) المذكورة (فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم، وإنما ذكرناه) بالتفصيل المتقدم (ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة) والثناء (وخوف المذمة) وكراهتها (فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته) ولا يتيسر (إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض) وكشف ما خفي منها. والله الموفق بكرمه .




الخدمات العلمية