الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : « لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها أوتادا للأرض فقالت الملائكة : ما خلق ربنا خلقا هو أشد من الجبال ، فخلق الله الحديد ، فقطع الجبال ، ثم خلق النار فأذابت الحديد ، ثم أمر الله الماء بإطفاء النار ، وأمر الريح فكدرت الماء ، فاختلفت الملائكة فقالت : نسأل الله تعالى ، قالوا : يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك قال الله ؟ تعالى : لم أخلق خلقا هو أشد علي من قلب ابن آدم حين يتصدق بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا ، أشد خلق خلقته» .

وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ، ثم سكت ، ثم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال لي : « يا معاذ ، قلت : لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قال : إني محدثك حديثا إن أنت حفظته نفعك ، وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة ، يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض ، ثم خلق السموات ، فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا عليها ، قد جللها عظما ، فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى ، له نور كنور الشمس ، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، أنا صاحب الغيبة ، أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري . قال : ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به ، فتزكيه وتكثره ، حتى تبلغ به إلى السماء الثانية ، فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا واضربوا ، بهذا العمل وجه صاحبه إنه ، أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري ؛ إنه كان يفتخر به على الناس في مجالسهم . قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نورا من صدقة وصيام وصلاة ، قد أعجب الحفظة ، فيجاوزون به إلى السماء الثالثة ، فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، أنا ملك الكبر ، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري ؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم . قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري ، له دوي من تسبيح وصلاة وحج وعمرة ، حتى يجاوزوا به السماء الرابعة ، فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا ، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، اضربوا به ظهره وبطنه ، أنا صاحب العجب ، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري ؛ إنه كان إذا عمل عملا أدخل العجب في عمله . قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها ، فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا واضربوا ، بهذا العمل وجه صاحبه ، واحملوه على عاتقه ، أنا ملك الحسد ؛ إنه كان يحسد الناس من يتعلم ويعمل بمثل عمله ، وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة يحسدهم ويقع فيهم أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري .

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام ، فيجاوزون بها إلى السماء السادسة ، فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا ، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ؛ إنه كان لا يرحم إنسانا قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر أضر به ، بل كان يشمت به ، أنا ملك الرحمة ، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري .

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة واجتهاد وورع ، له دوي كدوي الرعد ، وضوء كضوء الشمس ، معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون ، به إلى السماء السابعة ، فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا ، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واضربوا ، به جوارحه اقفلوا ، به على قلبه إني ، أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي ؛ إنه أراد بعمله غير الله تعالى ؛ إنه أراد رفعة عند الفقهاء ، وذكرا عند العلماء ، وصيتا في المدائن ، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري ، وكل عمل لم يكن لله خالصا فهو رياء ، ولا يقبل الله عمل المرائي .

قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى ، وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ، ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله .

قال : فيقول الله لهم : أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه ؛ إنه لم يردني بهذا العمل ، وأراد به غيري ، فعليه لعنتي ، فتقول الملائكة كلهم : عليه لعنتك ولعنتنا ، وتقول السموات كلها : عليه لعنة الله ولعنتنا ، وتلعنه السموات السبع والأرض ومن فيهن . قال معاذ قلت : يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ ، قال : اقتد بي ، وإن كان في عملك نقص يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن ، واحمل ذنوبك عليك ، ولا تحملها عليهم ، ولا تزك نفسك بذمهم ، ولا ترفع نفسك عليهم ، ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة ، ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك ، ولا تناج رجلا وعندك آخر ، ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا ، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار ، قال الله تعالى : والناشطات نشطا أتدري من هن يا معاذ ؟ قلت : ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قال : كلاب في النار ، تنشط اللحم والعظم ، قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فمن يطيق هذه الخصال ? ومن ينجو منها ? قال : يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه .

قال : فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ ؛ للحذر مما في هذا الحديث
.

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الأرض مادت) أي: تحركت واضطربت (فخلق الجبال فصيرها أوتاد الأرض) أي: سكنها بها فكانت شبه الأوتاد (فقال الملائكة: ما خلق ربنا خلقا أشد من الجبال، فخلق الله الحديد، فقطع الجبال، ثم خلق النار فأذابت الحديد، ثم أمر الله الماء فأطفأ النار، وأمر الريح فكدرت الماء، فاختلفت الملائكة فقالت: نسأل الله تعالى، قالوا: يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك؟) أي: أقواه (فقال تعالى: لم أخلق خلقا هو أشد من ابن آدم حين يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله، فهو أشد خلق خلقته") قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أنس مع اختلاف، وقال: غريب. انتهى .

قلت: ولفظه: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق [ ص: 265 ] الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت، فعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: يا رب هل في خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، قالت: يا رب هل في خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء، قالت: يا رب هل في خلقك شيء أشد من الماء؟ قال نعم، الريح، قالت: يا رب هل في خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه ويخفيها عن شماله".

وهكذا رواه أيضا أحمد، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والبيهقي، وأبو الشيخ في العظمة، والضياء في المختارة .

(وروى عبد الله بن المبارك) المروزي، تقدمت ترجمته في كتاب العلم (بإسناده عن رجل) لم يسم (أنه قال لمعاذ بن جبل) رضي الله عنه: (حدثنا حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت، ثم سكت، ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي: "يا معاذ، قلت: لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: إني محدثك حديثا إن أنت حفظته نفعك، وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله -عز وجل- خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلق السموات، فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا عليها، قد جللها عظما، فتصعد الحفظة) وهم الكرام الكاتبون (بعمل العبد من حين يصبح إلى أن يمسي، له نور كنور الشمس، حتى إذا طلعت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك) الموكل بتلك السماء (للحفظة) الصاعدين بذلك العمل: (اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة، أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري .

قال: ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد، فتزكيه وتكثره، حتى تبلغ به إلى السماء الثانية، فيقول لهم الملك الموكل بالسماء الثانية: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، فإنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا) أي: متاعها (أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم .

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نورا من صدقة وصيام وصلاة، قد أعجب الحفظة، فيجاوزون به إلى السماء الثالثة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم .

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر) أي: يضيء (كما يزهر الكوكب الدري، له دوي من تسبيح وصلاة وحج وعمرة، حتى يجاوزوا به إلى السماء الرابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، اضربوا ظهره وبطنه، أنا صاحب العجب، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان إذا عمل عملا أدخل فيه العجب .

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واحملوه على عاتقه، أنا ملك الحسد؛ إنه كان يحسد الناس من تعلم ويعمل بعمله، وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة ويحسدهم ويقع فيهم أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري .

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج [ ص: 266 ] وعمرة وصيام، فيجاوزون به إلى السماء السادسة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه؛ إنه كان لا يرحم إنسانا قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر، بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري .

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صيام وصدقة وصلاة ونفقة واجتهاد وورع، له دوي كدوي الرعد، وضوء كضوء الشمس، معه ثلاثة آلاف ملك، يتجاوزون به إلى السماء السابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واضربوا به جوارحه، واقفلوا به على قلبه، أنا أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي؛ إنه أراد بعمله غير الله؛ إنه أراد به رفعة عند الفقهاء، وذكرا عند العلماء، وصيتا في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، وكل عمل لم يكن خالصا فهو رياء، ولا يقبل الله عمل المرائي .

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله تعالى، وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله -عز وجل- فيقفون بين يديه، ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله تعالى، قال: فيقول الله تعالى لهم: أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه؛ إنه لم يردني بهذا العمل، وأراد به غيري، فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلها: عليه لعنتك ولعنتنا، وتقول السموات كلها: عليه لعنة الله ولعنتنا، وتلعنه السموات السبع ومن فيهن .

قال معاذ) رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ، قال: اقتد بي، وإن كان في عملك نقص يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن، واحمل ذنوبك عليك، ولا تحملها عليهم، ولا تزك نفسك بذمهم، ولا ترفع نفسك عليهم، ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة، ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تناج رجلا وعندك آخر، ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار، قال الله تعالى: والناشطات نشطا أتدري ما هن يا معاذ؟ قلت: ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: كلاب في النار، تنشط اللحم والعظم، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن يطيق هذه الخصال؟ ومن ينجو منها؟ قال: يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه، قال: فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ؛ للحذر مما في هذا الحديث") .

قال العراقي: هو كما قال المصنف، رواه ابن المبارك بطوله في الزهد له، وفي إسناده كما ذكر رجل .

ورواه ابن الجوزي في الموضوعات. انتهى .

وبخط الكمال الدميري: قال الشيخ تقي الدين القشيري: الرجل المذكور هو خالد بن معدان. انتهى .

وخالد بن معدان هو أبو عبد الله الكلاعي الشامي، ثقة، عابد، يرسل كثيرا عن معاذ، وربما كان بينهما اثنان، كما ذكره الحافظ ابن حجر في التهذيب .

وقال ابن عراق: ذكر هذا الحديث الحافظ المنذري في ترغيبه مخرجا من الزهد لابن المبارك، وأشار إلى بعض الطرق المذكورة وغيرها .




الخدمات العلمية