بيان الرخصة في كتمان الذنوب ، وكراهة اطلاع الناس عليها ، وكراهة ذمهم له .
اعلم أن كما قال الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية ، رضي الله عنه لرجل : عليك بعمل العلانية ، قال : يا أمير المؤمنين ، وما عمل العلانية ? قال : ما إذا اطلع عليك لم تستح منه . عمر
وقال أبو مسلم الخولاني ما عملت عملا أبالي أن يطلع الناس عليه إلا إتياني أهلي والبول والغائط إلا أن هذه درجة عظيمة ، لا ينالها كل واحد .
، ولا يخلو الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ، ويكره اطلاع الناس عليها ، لا سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات والأماني ، والله مطلع على جميع ذلك ، فإرادة العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور ، وليس كذلك ، بل المحظور أنه يستر ذلك ليري الناس أنه ورع خائف من الله تعالى ، مع أنه ليس كذلك ، فهذا هو ستر المرائي .
وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ، ويصح قصده فيه ، ويصح اغتمامه باطلاع الناس عليه في ثمانية أوجه .
الأول : أن يفرح بستر الله عليه ، وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره في القيامة ؛ إذ ورد في الخبر: أن وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان . من ستر الله عليه في الدنيا ذنبا ستره الله عليه في الآخرة
الثاني : أنه قد علم أن كما قال صلى الله عليه وسلم : الله تعالى يكره ظهور المعاصي ، ويحب سترها ، . . « من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله »
فهو وإن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله .
وهذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي ، وأثر الصدق فيه أن يكره ظهور الذنب من غيره أيضا ويغتم بسببه .
الثالث : أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه ، ويشغل قلبه وعقله عن طاعة الله تعالى ؛ فإن الطبع يتأذى بالذم ، وينازع العقل ويشغل ، عن الطاعة وبهذه ، العلة أيضا ينبغي أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى ، ويستغرق قلبه ويصرفه عن الذكر .
، وهذا أيضا من قوة الإيمان ؛ إذ صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان .
الرابع : أن يكون ستره ورغبته فيه لكراهته لذم الناس من حيث يتأذى طبعه ؛ فإن الذم مؤلم للقلب ، كما أن الضرب مؤلم للبدن ، وخوف تألم القلب بالذم ليس بحرام ، ولا الإنسان به عاص ، وإنما يعصي إذا جزعت نفسه من ذم الناس ، ودعته إلى ما لا يجوز حذرا من ذمهم ، وليس يجب على الإنسان أن لا يغتم بذم الخلق ولا يتألم به .
نعم ، كمال الصدق في أن تزول عنه رؤيته للخلق ، فيستوي عنده ذامه ومادحه لعلمه أن ، وذلك قليل جدا وأكثر الطباع تتألم بالذم ؛ لما فيه من الشعور بالنقصان ، ورب تألم بالذم محمود إذا كان الذام من أهل البصيرة في الدين ! فإنهم شهداء الله وذمهم يدل على ذم الله تعالى ، وعلى نقصان في الدين ، فكيف لا يغتم به ، نعم ، الغم المذموم هو أن يغتم لفوات الحمد بالورع ، كأنه يحب أن يحمد بالورع ، ولا يجوز أن يحب أن يحمد بطاعة الله ، فيكون قد طلب بطاعة الله ثوابا من غيره ، فإن وجد ذلك في نفسه وجب عليه أن يقابله بالكراهة والرد . الضار والنافع هو الله ، وأن العباد كلهم عاجزون
وأما كراهة الذم بالمعصية من حيث الطبع فليس بمذموم ، فله الستر حذرا من ذلك ، ويتصور أن يكون العبد بحيث لا يحب الحمد ، ولكن يكره الذم .
وإنما مراده أن يتركه الناس حمدا وذما ، فكم من صابر عن لذة الحمد لا يصبر على ألم الذم ! إذ الحمد بطلب اللذة وعدم اللذة لا يؤلم . وأما الذم فإنه مؤلم ، فحب الحمد على الطاعة طلب ثواب على الطاعة في الحال ، وأما كراهة الذم على المعصية فلا محذور فيه إلا أمر واحد ، وهو أن يشغله غمه باطلاع الناس على ذنبه عن اطلاع الله ، فإن ذلك غاية النقصان في الدين ، بل ينبغي أن يكون غمه باطلاع الله وذمه له أكثر .
الخامس : أن يكره الذم من حيث إن الذام قد عصى الله تعالى به ، وهذا من الإيمان ، وعلامته أن يكره ذمه لغيره أيضا ، فهذا التوجع لا يفرق بينه وبين غيره بخلاف التوجع من جهة الطبع .
السادس : أن يستر ذلك ؛ كيلا يقصد بشر إذا عرف ذنبه ، وهذا وراء ألم الذم ؛ فإن الذم مؤلم من حيث يشعر القلب بنقصانه وخسته ، وإن كان ممن يؤمن شره وقد يخاف شر من يطلع على ذنبه بسبب من الأسباب فله أن يستر ذلك ؛ حذرا منه .
السابع : مجرد الحياء ؛ فإنه نوع ألم وراء ألم الذم ، والقصد بالشر ، وهو خلق كريم يحدث في أول الصبا مهما أشرق عليه نور العقل فيستحي ، من القبائح إذا شوهدت وهو منه وصف محمود إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . . « الحياء خير كله »
وقال صلى الله عليه وسلم : . « الحياء شعبة من الإيمان
» وقال صلى الله عليه وسلم : . . « الحياء لا يأتي إلا بخير »
وقال صلى الله عليه وسلم : . « إن الله يحب الحيي الحليم