الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم .

ونسوا فضل الله تعالى عليهم ، وقالوا : « لا نغلب اليوم من قلة » وكلوا إلى أنفسهم، فقال تعالى: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين وروى ابن عيينة أن أيوب عليه السلام قال: إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء، وما ورد علي أمر إلا آثرت هواك على هواي، فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت: يا أيوب أنى لك ذلك؟! فأخذ رمادا ووضعه على رأسه، وقال: منك يا رب منك يا رب، فرجع من نسيانه إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى؛ ولهذا قال تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم خير الناس : «ما منكم من أحد ينجيه عمله ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا ترابا وتبنا وطيرا مع صفاء أعمالهم وقلوبهم ، فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله ، أو يدل به ، ولا يخاف على نفسه فإذن : هذا هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب .

ومهما غلب ذلك على القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها بل هو ينظر إلى الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل فيخاف من ذلك ، فيقول : إن من لا يبالي أن يحرم من غير جناية ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن يعود ، ويسترجع ما وهب ، فكم من مؤمن قد ارتد ، ومطيع قد فسق وختم له بسوء ! وهذا لا يبقى معه عجب بحال والله تعالى أعلم .

التالي السابق


(وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين على قوتهم) وشوكتهم (وكثرتهم إذ كانوا اثني عشر ألفا) عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفان من مسلمة الفتح (ونسوا فضل الله عليهم، وقالوا: "لا نغلب اليوم من قلة") وكان القائل لذلك رجلا من الأنصار، وكون قائل ذلك أبا بكر الصديق من افتراء الرافضة (وكلوا إلى أنفسهم، فقال تعالى: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) أي: اتسعت ( ثم وليتم مدبرين ) [ ص: 416 ] أي: منهزمين .

قال العراقي في الدلائل: رواه البيهقي في الدلائل من رواية الربيع بن أنس مرسلا "أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله -عز وجل-: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ".

ولابن مردويه في تفسيره من حديث أنس "لما التقوا يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، فقالوا: اليوم نقاتل، ففروا فر الفرخ" وابن فضالة ضعفه الجمهور. اهـ .

قلت: وتمام سياق البيهقي في الدلائل: قال الربيع: "وكانوا اثني عشر ألفا، منهم ألفان من أهل مكة" وجاء تفصيل ذلك في رواية عبيد بن عمير الليثي عند أبي الشيخ قال: "كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة آلاف من الأنصار، وألف من جهينة، وألف من مزينة، وألف من أسلم، وألف من غفار، وألف من أشجع، وألف من المهاجرين، وغيرهم".

وأما حديث أنس الذي عند ابن مردويه فقد رواه أيضا أبو الشيخ، والحاكم وصححه، ولفظه: "لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم، فقال القوم: اليوم والله نقاتل، فلما التقوا واشتد القتال ولوا مدبرين" الحديث .

وأخرج ابن المنذر، عن الحسن البصري قال: "لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا: الآن نقاتل حين اجتمعنا، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما قالوا، وما أعجبهم من كثرتهم، فالتقوا، فهزموا" الحديث .

(وروى ابن عيينة) سفيان رحمه الله (أن أيوب -عليه السلام- قال: إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء، وما ورد علي أمر إلا آثرت هواك على هواي، فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت: يا أيوب أنى لك) من أين لك (ذلك؟! فأخذ رمادا فوضعه على رأسه، وقال: منك يا رب منك يا رب، فرجع من نسيانه إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود المصري، حدثنا يونس بن عبد الرحمن قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: قال أيوب -عليه السلام-: "اللهم إنك تعلم أنه لم يعرض لي أمران قط، أحدهما لك فيه رضا، والآخر لي فيه هوى، إلا آثرت الذي لك فيه رضا على الذي لي فيه هوى، قال: فنودي من غمامة من عشرة آلاف صوت: يا أيوب من فعل ذلك بك؟ قال: فوضع التراب على رأسه، ثم قال: أنت يا رب .

(ولهذا قال) الله (تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وهم خير الناس) بنص الخبر: "خير القرون قرني، ثم الذي يلونهم": ("ما منكم من أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته") قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة. اهـ .

قلت: ورواه ابن حبان أيضا بزيادة: "ولكن سددوا" ويروى من حديث شريك بن طارق، وأبي موسى:

أما حديث شريك: فلفظه: "يدخله" بدل "ينجبه" و"ربي" بدل "الله" رواه ابن حبان والبغوي وابن قانع والطبراني، قال البغوي: ولا أعلم له غيره .

وأما حديث أبي موسى: فلفظه: "يدخله" و"يتغمدني الله برحمته" رواه الطبراني.

(ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا ترابا) ورمادا (وتبنا وطيرا) كما تقدم عن عمر وابن مسعود، وغيرهما (مع صفاء أعمالهم، و) طهارة (قلوبهم) واستقامة أحوالهم (فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله، أو يدل به، ولا يخاف على نفسه؟!

فإذا: هذا هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب، ومهما غلب ذلك القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها بل هو ينظر إلى الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل فيخاف من ذلك، فيقول: إن من لا يبالي أن يحرم) أي: يمنع (من غير جناية) سابقة (ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن يعود، ويسترجع ما وهب، فكم من مؤمن قد أذنب، ومطيع قد فسق وختم له بالسوء!) والعياذ بالله (وهذا لا يبقى معه عجب بحال) والله الموفق .




الخدمات العلمية