الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام ، والمجادلة في الأهواء ، والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم ، واستكثروا من معرفة المقالات المختلفة واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة أولئك ، وإفحامهم وافترقوا في ذلك فرقا كثيرة واعتقدوا أنه لا يكون لعبد عمل إلا بإيمان ، ولا يصح إيمان إلا بأن يتعلم جدلهم ، وما سموه أدلة عقائدهم ، وظنوا أنه لا أحد أعرف بالله وبصفاته منهم ، وأنه لا إيمان لمن لم يعتقد مذهبهم ، ولم يتعلم علمهم ودعت كل فرقة منهم إلى نفسها .

ثم هم فرقتان ضالة ومحقة ، فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة ، والمحقة هي التي تدعو إلى السنة ، والغرور شامل لجميعهم .

أما الضالة فلغفلتها عن ضلالها ، وظنها بنفسها النجاة ، وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا وإنما ، أتيت من حيث إنها لم تتهم رأيها ، ولم تحكم أولا شروط الأدلة ومنهاجها ، فرأى أحدهم الشبهة دليلا ، والدليل شبهة .

وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور ، وأفضل القربات في دين الله ، وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث وأن ، من صدق الله ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن أو ليس كامل الإيمان ، ولا مقرب عند الله .

فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات المبتدعة ومناقضاتهم ، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل ولكنه لالتذاذه بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن دين الله تعالى عميت بصيرته فلم يلتفت إلى القرن الأول فإن ، النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق وأنهم قد أدركوا كثيرا من أهل البدع والهوى ، فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضا للخصومات والمجادلات ، وما اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم ، بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته وإذا رأوا مصرا على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ، ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر ، بل قالوا : إن الحق هو الدعوة إلى السنة ، ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة .

إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحابه وهم يتجادلون، ويختصمون ، فغضب عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب ، فقال: ألهذا بعثتم ؟! أبهذا أمرتم ; أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟! انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا ، وما نهيتم عنه فانتهوا »
فقد زجرهم عن ذلك ، وكانوا أولى خلق الله بالحجاج والجدال .

، ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام ، وإفحام ، وتحقيق حجة ، ودفع سؤال ، وإيراد إلزام ، فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ، ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب ، ويستخرج منها الإشكالات والشبه ، ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم وما كان يعجز عن مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأقيسة ، وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام ولكن الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا ، وقالوا : لو نجا أهل الأرض ، وهلكنا لم تنفعنا نجاتهم ، ولو نجونا ، وهلكوا لم يضرنا هلاكهم ، وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا ولم نخوض فيما لا نأمن على أنفسنا الخطأ في تفاصيله ، ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيده التعصب والخصومة تشددا في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي ، ومجادلتها ومجاهدتها ; لتترك الدنيا للآخرة أولى ، هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة ، فكيف وقد نهيت عنه وكيف ؟ أدعو إلى السنة بترك السنة ، فالأولى أتفقد نفسي ، وأنظر من صفاتها ما يبغضه الله تعالى ، وما يحبه لأتنزه عما يبغضه وأتمسك بما يحبه .

التالي السابق


(وفرقة أخرى) منهم (اشتغلوا بعلم الكلام، والمجادلة في الأهواء، والرد على المخالفين) من أصحاب المذاهب المخالفة (وتتبع مناقضاتهم، واستكثروا من معرفة المقاتلات المختلفة) على كثرتها، (واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة أولئك، وإفحامهم) وإلزامهم (وافترقوا في ذلك فرقا كثيرة) أوردها ابن أبي الدم في كتاب له قد جمعه في ذلك، (واعتقدوا أنه لا يكون لعبد عمل إلا بإيمان، ولا يصح إيمان إلا بأن يتعلم جدلهم، وما سموه أدلة عقائدهم، وظنوا أنه لا أحد أعرف بالله وبصفاته منهم، وأنه لا إيمان لمن لا يعتقد مذهبهم، ولم يتعلم علمهم) ، ولم يسلك على طريقتهم، (ودعت كل فرقة منهم إلى نفسها) ، وحسنت طريقتها (ثم هم فرقتان ضالة ومحقة، فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة، والمحقة هي التي تدعو إلى السنة، والغرور شامل لجميعهم، أما الضالة فلغفلتها عن ضلالتها، وظنها بنفسها النجاة، وهم فرق كثيرة) ، أوردها أبو نصر التميمي في كتاب الأسماء (يكفر بعضهم بعضا، وأنا أتيت من حيث أنها لم تتهم رأيها، ولم تحكم أولا شروط الأدلة ومنهاجها، فرأى أحدهم الشبه دليلا، والدليل شبيهة) فمن ههنا كان سبب ضلالتهم، (وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث أنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور، وأفضل القربات في دين الله، وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث، وإن من صدق الله ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن) هذا قول أكثرهم. (أو ليس بكامل الإيمان، ولا مقرب عند الله تعالى، فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات المبتدعة ومناقضاتهم، وأهملوا نفوسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة) ، وحجب عنهم التفقد لها (وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل) لزعمه أنه يوصل إلى معرفة الله، (ولكنه لالتذاذ بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن [ ص: 457 ] دين الله عميت بصيرته) فحجبت عن شهود ما وراء ذلك (فلم يلتفت إلى القرون الأول، وإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق) ، وذلك فيما رواه أحمد والطحاوي، وابن أبي عاصم، والروياني، والضياء من حديث بريدة: خير هذه الأمة القرن الذي بعثت أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ورواه ابن أبي شيبة من مرسل عمرو بن شرحبيل: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، ورواه كذلك أحمد، والشيخان، والمزني، وابن ماجه من حديث ابن مسعود، وروى مسلم من حديث أبي هريرة: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، ورواه الطبراني من حديث سمرة، ومن حديث أبي برزة، ورواه الطبراني من حديث سعد بن تميم الكوفي: "خير أمتي أنا وأقراني، ثم القرن الثاني، ثم القرن الثالث". (وأنهم قد أدركوا كثيرا من أهل البدع والأهواء، فما جعلوا أعمالهم ودينهم عرضا للخصومات والمجادلات، وما اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم، بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا حاجة) اضطرتهم إلى الكلام فيه، (وتوسموا مخايل قبول) ومظانه، (فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته) ، وينبهه عليها، (وإذا رأوا مصرا على ضلالته هجروه وأعرضوا عنه) بالكلية (وأبغضوه في الله، ولم يلزموا الملاحاة) أي: المخاصمة بشدة الإلحاح (معه طول العمر، بل قالوا: إن الحق هو الدعوة إلى السنة، ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة; إذ روى أبو أمامة) صدي بن عجلان (الباهلي) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) رواه الترمذي، وابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وتقدم في كتاب العلم، وفي آفات اللسان، (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحابه وهم يتجادلون، ويختصمون، فغضب عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب، فقال: "أبهذا بعثتم؟! أبهذا أمرتم; أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! انظروا إلى ما أمرتم به فاعلموا، وما نهيتم عنه فانتهوا") رواه نصر المقدسي في الحجة من حديث عبد الله بن عمرو، وبلفظ: "أبهذا أمرتم، ولهذا خلقتم; أن تضربوا كتاب الله بعضا ببعض؟! انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا"، وروي عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم سمع قوما يتراجعون في القدر فقال: "أبهذا أمرتم؟! أو بهذا عنيتم؟! إنما هلك الذين من قبلكم بأشباه هذا; ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، أمركم الله بأمر فاتبعوه، ونهاكم عن شيء فانتهوا" هكذا رواه الدارقطني في الأفراد، والشيرازي في الألقاب، وابن عساكر، وروى الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم، إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه"، وروى البزار، والطبراني في الأوسط، وابن الغريس من حديث أبي سعيد بلفظ: "أبهذا بعثتم أم بهذا أمرتم؟! ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، (فقد زجرهم عن ذلك، وكانوا أولى خلق الله بالحجاج والجدل، ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعث إلى كافة أهل الملل) مع تباين أنواعها، (فلم يذكر) أنه كان (يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام، وإفحام، وتحقيق حجة، ودفع سؤال، وإيراد إلزام، فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم، ولم يزد في المجادلة عليه) ، بل أمر فيه بأن يجادلهم فيه بالتي هي أحسن (لأن ذلك يشوش القلوب، ويستخرج منهم الإشكالات والشبه، ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم) أن رسخت فيها، ولهذا السبب كان هجران أحمد بن حنبل رحمه الله للحارث المحاسبي، كما تقدم في كتاب العلم (وما كان يعجز عن مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأقيسة، وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام) للخصوم، (ولكن الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا، وقالوا: لو نجا أهل الأرض، وهلكنا [ ص: 458 ] لم تنفعنا نجاتهم، ولو نجونا، وهلكوا لم يضرنا هلاكهم، وليس علينا من المجادلة أكثر مما كان على الصحابة) رضوان الله عليهم (مع اليهود والنصارى وأهل الملل) المختلفة، (وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم) ، وإلزاماتهم (فما لنا نضيع العمر) سبهللا (ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا) وهو يوم القيامة (ولم نخوض فيما لا نأمن على أنفسنا الخطأ في تفاصيله، ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجدله) معه (بل يزيده التعصب والخصومة تشددا في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي، ومجاهدتها ومجادلتها; لتترك الدنيا للآخرة أولى، هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة، فكيف وقد نهيت عنه؟ فكيف أدعو إلى السنة بترك السنة، فالأولى أن أتفقد نفسي، وأنظر من صفاتها) الباطنة فيها (ما يبغضه الله تعالى، وما يحبه لأتنزه عما يبغضه) أي: أتباعد عنه (وأتمسك بما يحبه) ، وأستوثق به .




الخدمات العلمية