الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه وجمع الروايات الكثيرة منه وطلب الأسانيد الغريبة العالية فهمة أحدهم أن يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول : أنا أروي عن فلان ولقد رأيت فلانا ومعي من الإسناد ما ليس مع غيري .

، وغرورهم من وجوه منها أنهم كحملة الأسفار ; فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني السنة ، فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل ، ويظنون أن ذلك يكفيهم ومنها أنهم إذا لم يفهموا معانيها ولا يعملون بها ، وقد يفهمون بعضها أيضا ولا يعملون به .

ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين ، وهو معرفة علاج القلب ويشتغلون بتكثير الأسانيد ، وطلب العالي منها ، ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك ومنها وهو الذي أكب عليه أهل الزمان أنهم أيضا لا يقيمون بشرط السماع ; فإن السماع بمجرده ، وإن لم تكن له فائدة ، ولكنه مهم في نفسه للوصول إلا إثبات الحديث إذ ، التفهم بعد الإثبات ، والعمل بعد التفهم ، فالأول السماع ثم التفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر وهؤلاء اقتصروا من الجملة على السماع ثم تركوا حقيقة السماع فترى الصبي يحضر في مجلس الشيخ والحديث يقرأ والشيخ ينام والصبي يلعب ثم يكتب اسم الصبي في السماع فإذا كبر تصدى ليسمع منه ، والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي ولا يضبط وربما يشتغل بحديث أو نسخ والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به ، ولم يعرفه وكل ذلك جهل وغرور .

إذ الأصل في الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظه كما سمعه ويرويه ، كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ ، والحفظ عن السماع .

فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته من الصحابة أو التابعين وصار سماعك عن الراوي كسماع من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أن تصغي لتسمع فتحفظ ، وتروي كما حفظت ، وتحفظ كما سمعت ، بحيث لا تغير منه حرفا ، ولو غير غيرك منه حرفا أو أخطأ علمت خطأه .

ولحفظك طريقان .

أحدهما أن تحفظ بالقلب ، وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في مجاري الأحوال .

والثاني أن تكتب كما تسمع ، وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره ، ويكون حفظك للكتاب معك ، وفي خزانتك فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره فإذا لم تحفظه لم تشعر بتغييره ، فيكون محفوظا بقلبك أو بكتابك ، فيكون كتابك مذكرا لما سمعته ، وتأمن فيه من التغيير والتحريف .

فإذا لم تحفظ لا بالقلب ولا بالكتاب وجرى على سمعك صوت غفل وفارقت المجلس ، ثم رأيت نسخة لذلك الشيخ وجوزت أن يكون ما فيه مغيرا أو يفارق حرفا منه للنسخة التي سمعتها لم يجز لك أن تقول : سمعت هذا الكتاب فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه ، بل سمعت شيئا يخالف ما فيه ، ولو في كلمة .

فإذا لم يكن معك حفظ بقلبك ، ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك ، وقد قال الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان إنا سمعنا ما في هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح .

التالي السابق


(وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه ) من الشيوخ (وجمع الروايات الكثيرة) للحديث الواحد، (وطلب الأسانيد الغريبة العالية) ، وعلوها باعتبار قلة الوسائط في [ ص: 461 ] السند (فهم أحدهم أن يدور في البلاد) القريبة والبعيدة، (ويرى الشيوخ) ، ويسمع منهم وعليهم (ليقول: أنا أروي عن فلان) بن فلان (ولقد لقيت فلانا) في بلد كذا في سنة كذا، (ومعي من الأسانيد الغريبة العالية ما ليس مع غيرى، وغرورهم من وجوه منها أنهم كحملة الأسفار; فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني السنة، فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل، ويظنون أن ذلك يكفيهم)، ونقل الكلام من غير فهم معناه غير كاف، (ومنها أنهم إذا لم يفهموا معانيها لا يعملون بها، وقد يفهمون بعضا ولا يعملون به، ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين، وهو معرفة معالجة) أمراض (القلب) الخفية (ويشتغلون بتكثير الأسانيد، وطلب العالي منها، ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك) أي: في معالجة أمراض القلب .

(ومنها هو الذي أكب عليه أهل الزمان أنهم أيضا لا يقومون بشرط السماع; فإن السماع بمجرده، وإن لم تكن له فائدة، ولكنه مهم في نفسه للوصول إلى إثبات الحديث، أو التفهم بعد الإثبات، والعمل بعد التفهم، فالأول السماع) وهو وصول لفظ الحديث إلى سمعه، (ثم التفهم) لمعناه، (ثم الحفظ) إما في قلبه، أو في كتابه، أو فيهما جميعا، وهو أعلى، (ثم العمل) به (ثم النشر) لمن تأهل له، وقد نقل نحو من ذلك من قول كل من السفيانيين كما تقدم ذلك في كتاب العلم، (وهؤلاء اقتصروا من الجملة على السماع) ، وتركوا ما بعده من التفهم والحفظ والعمل (ثم) مع اقتصارهم (تركوا حقيقة السمع فترى الصبي) أي: الصغير (يحضر في مجلس الشيخ) بنفسه، أو يحضره والده (والحديث يقرأ) بين يديه، (والشيخ) تارة (ينام) أي: يغلب عليه النعاس (والصبي يلعب) كما هو من شأنه، (ثم يكتب) في الطباق (اسم الصبي في السماع) أي: يكتبه المستملي، أو كاتب السماع (فإذا كبر) الصبي بعد البلوغ وقبله أيضا (تصدى ليسمع منه، والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي) أي: لا يلقي أذنه لما يسمعه (ولا يضبط) في عقله ما يسمعه، (وربما يشتغل بحديث) مع غيره (أو نسخ) لما يسمعه، أو لغيره (والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به، ولم يعرفه) إما لثقل في سمعه، أو لكثرة ازدحام، أو لأمر آخر شغله، (وكل ذلك جهل وغرور; إذ الأصل في الحديث أن تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحفظه كما سمعته، وترويه كما حفظته) كما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، (فتكون الرواية عن الحفظ، والحفظ عن السماع، فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته) ممن بعده (من الصحابة أو التابعين) ، أو أتباعهم (وصار سماعك من الراوي كسماع من يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن تصغي لتحفظ، وتروي كما حفظت، وتحفظ كما سمعت، بحيث لا تغير منه حرفا، ولو غير غيرك منه حرفا وأخطأ علمت خطأه) فقد أجمع أئمة الحديث والفقه والأصول على قبول ناقل الخبر المحتج به بانفراده بأن يكون ضابطا معدلا يقظا بأن لم يكن مغفلا يميز الصواب من الخطاء كالنائم والساهي. إذ المتصف بها لا يحصل الركون إليه، ولا تميل النفس إلى الاعتماد عليه، وأن يكون يحفظ أي: يثبت ما سمعه في حفظه بحيث يبعد زواله من القوة الحافظة، ويتمكن من استحضاره متى شاء إن حدث من حفظه، أو من كتابه الذي يحتوي عليه، بحيث يصونه عن طرق التزوير والتغيير إليه من حين سمع فيه إلى أن يؤدي، وهذه الشروط موجودة في كلام الشافعي في الرسالة صريحا إلا الأول، فيؤخذ من قوله: أن يكون غافلا لما يحدث به لقول ابن حبان هو أن يعقل من صناعة الحديث ما لا يرفع موقوفا ولا يصل مرسلا، أو يصحف اسما، وهذا كناية عن اليقظة، (ولحفظك طريقان [ ص: 462 ] أحدهما أن تحفظ بالقلب، وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في مجاري الأحوال، والثاني أن تكتب كما تسمع، وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره، ويكون حفظك للكتاب معك، وفي خزانتك فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره) كما وقع لابن وهب مع جاره، (وإذا لم تحفظه لم تشعر بتغييره، فيكون محفوظا بقلبك أو بكتابتك، فيكون كتابك مذكرا لما سمعته، وتأمن فيه من التغيير) والإزالة، (والتحريف فإذا لم تحفظ بالقلب ولا بالكتاب جرى على سمعك صوت غفل) بضم فسكون أي: مبهم لا يدرى حقيقته (وفارقت المجلس، ثم رأيت نسخة لذلك الشيخ) الذي وقع السماع عليه للكتاب المذكور من غير تلك النسخة، (وجوزت أن يكون ما فيه مغيرا) مزالا عن جهة الصواب، (أو يفارق حرفا منه للنسخة التي سمعتها) بعينها (لم يجز لك أن تقول: سمعت هذا الكتاب) على الشيخ الفلاني، (فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه، بل سمعت شيئا يخالف ما فيه، ولو في كلمة) واحدة، (فإذا لم يكن معك حفظ بقلبك، ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها) وقت الأداء، (فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك، وقد قال الله عز وجل: ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وقال ابن الأثير في مقدمة كتابه جامع الأصول: الضبط عبارة عن احتياط في باب العلم، وله طرفان العلم عند السماع، والحفظ بعد العلم عند التكلم، حتى إذا سمع ولم يعلم لم يكن معتبرا، كما لو سمع صياحا لا معنى له، وإذا لم يفهم اللفظ بمعناه لم يكن ضبطا، وإذا شك في حفظه بعد العلم والسماع لم يكن ضبطا، قال: ثم الضبط نوعان: ظاهر وباطن; فالظاهر ضبط معناه من حيث اللفظ، والباطن ضبط معناه من حيث تعلق الحكم الشرعي به، وهو الفقه، ومطلق الضبط الذي هو شرط في الراوي هو الضبط ظاهرا عند الأكثر; لأنه لا يجوز نقل الخبر بالمعنى فتلحقه تهمة تبديل المعنى بروايته قبل الحفظ أو قبل العلم حين يسمع، ولهذا المعنى قلت الرواية عن أكثر الصحابة; لتعذر هذا المعنى قال: وهذا الشرط، وإن كان على ما بينا فإن أصحاب الحديث قلما يعتبرونه في حق الطفل دون الغفل، فإنه متى صح عندهم سماع الطفل وحضوره أجازوا روايته، والأول أحوط للدين وأولى ا هـ .

قال السخاوي: وحاصله اشتراط كون سماعه عند التحمل تاما فيخرج من سمع صوتا غفلا، وكونه حين التأدية عارفا بمدلولات الألفاظ، ولا انحصار له في الثاني عند الجمهور لاكتفائهم بضبط كتابه، ولا في الأول عند المتأخرين خاصة لاعتدادهم من لا يفهم العربي أصلا، وقوله: لتعذر هذا المعنى عند ذلك الصحابي نفسه لخوفه من عدم حفظه، وعدم تمكنه في الإتيان بكل المعنى، وهذا منهم رضي الله عنهم تورع واحتياط، ولقد كان بعضهم تأخذه الرعدة إذا روى، ويقول: أو نحو ذلك، أو: قريب من ذا، وما أشبه ذلك .

(وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان) وقبله وبعده: (إنا سمعنا ما في هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح) إلا أن تكون لهم إجازة من المسمع تصحب السماع، فحينئذ يجوز لهم أن يقولوا قولهم ذلك، وما أحسن قول ابن الصلاح فيما وجد بخطه لمن سمع منه صحيح البخاري: وأجرت له روايته عني مخصصا بالإجازة نازلا عن السمع لغفلة، أو سقط عند السماع بسبب من الأسباب، وكذا كان ابن رافع يتلفظ بالإجازة بعد السماع قائلا: أجزت لكم روايته عني سماعا وإجازة لما خالف أصل السماع إن خالف، بل قال مفتي قرطبة أبو عبد الله بن عتاب أنه لا غنى عن الإجازة مع السماع لجواز السهو أو الغفلة أو الاشتباه على الطالب والشيخ معا، أو على أحدهما، وكلامه إلى الوجوب أقرب، ويتعين على كاتب الطبقة استحبابا التنبيه على ما وقع من إجازة المسمع منها .

وقال القاضي عياض: وقفت على تقييد سماع لبعض نبهاء الخراسانيين من أهل المشرق قال فيه: سمع هذا الجزء فلان وفلان على الشيخ أبي الفضل عبد العزيز بن إسماعيل البخاري، وأجاز ما أغفل وصحف ولم يصغ إليه أن يروي عنه على الصحة. قال القاضي: وهذا منزع نبيل في الباب جدا .




الخدمات العلمية