الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفرقة أخرى زهدت في المال ، وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد ، وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد ترك أهون الأمرين ، وباء بأعظم المهلكين فإن الجاه أعظم من المال ولو ترك الجاه ، وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا مغرور ; إذا الظن أنه من الزهاد في الدنيا ، وهو لم يفهم معنى الدنيا ، ولم يدر أن منتهى لذاتها لرياسة ، وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقا وحسودا ومتكبرا ومرائيا ومتصفا بجميع خبائث الأخلاق .

نعم ، وقد يترك الرياسة ، ويؤثر الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطول بذلك على الأغنياء ، ويخشن معهم الكلام ، وينظر إليهم بعين الاستحقار ، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ، ويعجب بعمله ، ويتصف بجملة من خبائث القلوب ، وهو لا يدري وربما يعطى المال فلا يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده ولو قيل له : إنه حلال فخذه في الظاهر ، ورده في الخفية ، لم تسمح به نفسه خوفا من ذم الناس فهو راغب في حمد الناس وهو من ألذ أبواب الدنيا ، ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا ، وهو مغرور ومع ذلك ، فربما لا يخلو من توقير الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة ، عن الماثلين إلى غيره من الزهاد ، وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه .

وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة مثلا ألف ركعة ، ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات ، فلا يدري أن ذلك مهلك ، وإن علم ذلك فلا يظن بنفسه ذلك ، وإن ظن بنفسه ذلك توهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير مؤاخذ بأحوال القلب ، وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته ، وهيهات وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح ثم لا يخلو هذا المغرور مع سوء خلقه مع الناس ، وخشونته وتلوث باطنه عن الرياء وحب الثناء . فإذا قيل له : أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح المغرور بذلك ، وصدق به ، وزاده ذلك غرورا وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضيا عند الله ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه .

التالي السابق


(وفرقة أخرى زهدت في المال، وقنعت من اللباس والطعام بالدون) الحقير منهما (ومن المسكن بالمساجد) والزوايا والخانات، (وظنت أنها) بذلك (أدركت رتبة الزهاد، وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ) أو بحلقة الذكر (أو بمجرد الزهد فقد ترك) هذا (أهون الأمرين، وباء بأعظم المهلكين فإن الجاه أعظم من المال) كما سبقت الإشارة إليه فيه في كتاب الجاه، (ولو ترك الجاه، وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا مغرور; إذ ظن أنه من الزهاد في الدنيا، وهو لم يفهم معنى الدنيا، ولم يدر أن منتهى لذاتها الرياسة، وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقا) بأن يخالف باطنه ظاهره إبقاء للجاه (وحسودا) يتمنى زوال نعمة الغير (ومتكبرا) على أقرانه (ومرائيا) في أحواله، (ومتصفا بجميع خبائث الأخلاق، نعم، وقد يترك الرياسة، ويؤثر الخلوة والعزلة) عن الناس، (وهو مع ذلك مغرور إذ يتطاول بذلك على الأغنياء، ويخشن معهم الكلام، وينظر إليهم بعين الاستحقار، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، ويعجب بعمله، ويتصف بجملة من خبائث القلوب، وهو لا يدري) ، وهو غرور (وربما يعطى المال فلا يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده) وأقبل على الدينا، (ولو قيل له: إنه حلال فخذه في الظاهر، ورده في الباطن، لم تسمح به نفسه خوفا من ذم الناس فهو) إذن (راغب في حمد الناس) وثنائهم عليه (وهو من ألذ أبواب الدنيا، ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا، وهو مغرور مع ذلك، فربما لا يخلو) حاله (عن توقير الأغنياء) إذا حضروا (وتقديمهم على الفقراء) في الجلوس والخطاب وغير ذلك، (و) عن (الميل إلى المريدين له) المعتقدين فيه (والمثنين عليه، و) عن (النفرة عن الماثلين إلى غيره من الزهاد، وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان) يريد إهلاكه بذلك لو شعر، (وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة مثلا ألف ركعة، ويختم) مع ذلك (القرآن) إما في صلاته أو خارجا عنها، (وهو في جميع ذلك لا تخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات، فلا يدري أن ذلك مهلك، وإن علم فلا يظن بنفسه ذلك، وإن ظن بنفسه ذلك فربما ظن أنه مغفور له لعمله الظاهر) ، وما يخطر له من فضائله الواردة، (وأنه غير مؤاخذ بأعمال القلب، وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته، وهيهات فذرة من ذي تقوى وخلق واحد من خلق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح) ، وإليه الإشارة بما في الخبر [ ص: 477 ] ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا بكثرة صيام، ولكن بشيء وقر في صدره، وقد تقدم، (ثم لا يخلو هذا المغرور مع سوء خلقه مع الناس، وخشونته) في محاوراته (وتلوث باطنه) بالقاذورات (عن الرياء وحب الثناء. فإذا قيل له: أنت من أوتاد الأرض وأوليائه وأحبائه) ، وربما قيل له: أنت قطب هذا الزمان ومجدده (فرح المغرور بذلك، وصدق به، وزاده ذلك غرورا) ، وتماديا على طريقته (وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضيا عند الله) تعالى (ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه) ، ولو كشف لهم الحجاب فرأوا ما فيه من ذميم الأوصاف لم يقولوا ما قالوا .




الخدمات العلمية