الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل ، كما التأويل كما اضطر أهل الباطن إلى تأويل قوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم ، إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإحاطة والعلم وحمل قوله صلى الله عليه وسلم : " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " على القدرة والقوة وحمل قوله صلى الله عليه وسلم : " الحجر الأسود يمين الله في أرضه على التشريف والإكرام لأنه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال ، فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه .

التالي السابق


(واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل، كما اضطر أهل الباطل إلى تأويل قوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم ، إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإحاطة والعلم) قال أبو نصر القشيري في "التذكرة الشرقية": فإن قيل: أليس الله يقول الرحمن على العرش استوى ، فيجب الأخذ بظاهره؟ قلنا: الله يقول أيضا وهو معكم أين ما كنتم ، ويقول تعالى : ألا إنه بكل شيء محيط ، فينبغي أيضا أن نأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكون على العرش، وعندنا، ومعنا، ومحيطا بالعالم محدقا به بالذات في حالة واحدة، والواحد يستحيل أن يكون بذاته في حالة بكل مكان. قالوا: قوله تعالى: وهو معكم ، يعني بالعلم، وبكل شيء محيط إحاطة العلم. قلنا: وقوله تعالى: على العرش استوى ، قهر وحفظ وأبقى. اهـ .

(و) كذا (حمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن") رواه مسلم في صحيحه، وفيه أيضا: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن"، يقلبها كقلب واحد، يصرفه كما يشاء (على القدرة والقهر) مجاز، بعلاقة أن اليد في الشاهد محل لظهور سلطان القدرة والقهر، فحسن إطلاق اليد وإرادة القدرة والقهر؛ قصدا للمبالغة؛ إذ المجاز أبلغ .

(وكذا حمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام بلفظه، وروى ابن ماجه نحوا من معناه من حديث أبي هريرة رفعه بلفظ: "من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن"، على التشريف والإكرام، والمعنى أنه وضع في الأرض للتقبيل والاستسلام؛ تشريفا له، كما شرفت اليمين وأكرمت بوضعها للتقبيل دون اليسار في العادة، فاستعير لفظ اليمين للحجر لذلك، أو لأن من قبله أو استلمه فقد فعل ما يقتضي الإقبال عليه والرضا عنه، وهما لازمان عادة لتقبيل اليمين، والحاصل أن لفظ اليمين استعير للحجر للمعنيين، أو لأحدهما، ثم أضيف إضافة تشريف وإكرام (لأنه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال، فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه) المحال، ويتأمل بعض الآيات والأخبار دون بعض على حكم التمني والتشهي ليس في الشرط، والمقصود من هذه المعارضة أنه يعرف أن الخصم يضطر إلى التأويل، فلتكن التأويلات على وفق الأصول، فإن قيل: هذا يشعر بكونه مغلوبا مقهورا قبل الاستواء، قيل: إنما يشعر بما قلتم أن لو كان للعرش وجود قبل الخلق وكان قديما والعرش مخلوق، وكل ما خلقه حصل مسخرا تحت خلقه، فلولا خلقه إياه لما حدث، ولولا إبقاؤه إياه لما بقي، ونص على العرش; لأنه أعظم المخلوقات فيما نقل إلينا، وإذا نص على الأعظم فقد اندرج تحته ما دونه .



قال ابن القشيري: ولو أشعر ما قلنا توهم غلبته لأشعر قوله: وهو القاهر فوق عباده بذلك أيضا، حتى يقال: كان مقهورا قبل خلق العباد، هيهات؛ إذ لم يكن للعباد وجود قبل خلقه إياهم، بل لو كان الأمر على ما توهمه الجهلة من أنه استواء بالذات لأشعر ذلك بالتغيير واعوجاج سابق على وقت الاستواء، فإن الباري تعالى كان موجودا قبل العرش، ومن أنصف علم أن قول من يقول: العرش بالرب استوى، أمثل من قول من يقول: الرب بالعرش استوى، فالرب إذا موصوف بالعلو وفوقية الرتبة والعظمة، منزه عن الكون في المكان [ ص: 109 ] وعن المحاذاة .

ثم قال: وقد نبغت نابغة من الرعاع لولا استزلالهم للعوام بما يقرب من أفهامهم ويتصور في أوهامهم لأجللت هذا المكتوب عن تلطيخه بذكرهم، يقولون: نحن نأخذ بالظاهر ونجري الآيات الموهمة تشبيها، والأخبار المقتضية حدا وعضوا على الظاهر، ولا يجوز أن نطرق التأويل إلى شيء من ذلك، ويتمسكون بقول الله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله ، وهؤلاء -والذي أرواحنا بيده- أضر على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان; لأن ضلالات الكفار ظاهرة يتجنبها المسلمون، وهؤلاء أتوا الدين والعوام من طريق يغتر به المستضعفون، فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع، وأحلوا في قلوبهم وصف المعبود سبحانه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء بالذات والتردد في الجهات، فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيل المحسوسات، فاعتقد الفضائح، فسال به السيل وهو لا يدري. اهـ .




الخدمات العلمية