والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها إذ معناه العلم بأن الذنوب والمعاصي مهلكات ومبعدات من الله تعالى وهذا داخل في وجوب الإيمان ولكن قد تدهش الغفلة عنه فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة ، ولا خلاف في وجوبها ، ومن معانيها ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال وذلك ، لا يشك في وجوبه . وأما والتحزن عليه فواجب وهو روح التوبة وبه تمام التلافي فكيف لا يكون واجبا ، بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فات من العمر ، وضاع في سخط الله . التندم على ما سبق
فإن قلت : تألم القلب أمر ضروري لا يدخل تحت الاختيار فكيف يوصف بالوجوب ؟ فاعلم أن سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب وله سبيل إلى تحصيل سببه ، وبمثل هذا المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ، ويحدثه في نفسه فإن ذلك محال بل العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة ، والقادر الكل من خلق الله وفعله والله خلقكم وما تعملون هذا هو الحق عند ذوي الأبصار وما سوى هذا ضلال .
فإن قلت أفليس : قلنا : نعم وذلك لا يناقض قولنا : إن الكل من خلق الله تعالى بل الاختيار أيضا من خلق الله ، والعبد مضطر في الاختيار الذي له ; فإن الله إذا خلق اليد الصحيحة . للعبد اختيار في الفعل والترك
وخلق الطعام اللذيذ وخلق الشهوة للطعام في المعدة ، وخلق العلم في القلب ، بأن هذا الطعام يسكن الشهوة وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة ، وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا ? ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الإرادة الباعثة على التناول فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة ، وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختيارا ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة ، إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل ضروريا فتحصل الحركة فتكون الحركة بخلق الله بعد حصول القدرة ، وانجزام الإرادة ، وهما أيضا من خلق الله ، وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع وهما أيضا من خلق الله تعالى ، ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيبا جرت به سنة الله تعالى في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا فلا يخلق الله حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة ، وما لم يخلق فيها حياة ، وما لم يخلق إرادة مجزومة ، ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلا في النفس ، ولا ينبعث هذا الميل انبعاثا تاما ما لم يخلق علما بأنه موافق للنفس إما في الحال ، أو في المآل ، ولا يخلق العلم أيضا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم ، فالعلم والميل الطبيعي أبدا يستتبع الإرادة الجازمة والقدرة والإرادة أبدا تستردف الحركة وهكذا ، الترتيب في كل فعل ، والكل من اختراع الله تعالى ، ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض ; فلذلك يجب تقدم البعض وتأخر البعض كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم ، ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة ، ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم فيكون ، خلق الجسم شرطا لحدوث الحياة لا أن ; الحياة تتولد من الجسم ، ويكون خلق الحياة شرطا لخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة ، ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حيا ويكون خلق العلم شرطا لجزم الإرادة ، لا أن العلم يولد الإرادة ، ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حي عالم ولا يدخل في الوجود إلا ممكن والإمكان ، ترتيب لا يقبل التغيير لأن تغييره محال ، فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل به لقبول الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب ، والعبد مجري هذه الحوادث المرتبة وهي مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واحد كلمح البصر ترتيبا كليا لا يتغير وظهورها بالتفصيل مقدر بقدر لا يتعداها وعنه العبارة بقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر .