الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها إذ معناه العلم بأن الذنوب والمعاصي مهلكات ومبعدات من الله تعالى وهذا داخل في وجوب الإيمان ولكن قد تدهش الغفلة عنه فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة ، ولا خلاف في وجوبها ، ومن معانيها ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال وذلك ، لا يشك في وجوبه . وأما التندم على ما سبق والتحزن عليه فواجب وهو روح التوبة وبه تمام التلافي فكيف لا يكون واجبا ، بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فات من العمر ، وضاع في سخط الله .

فإن قلت : تألم القلب أمر ضروري لا يدخل تحت الاختيار فكيف يوصف بالوجوب ؟ فاعلم أن سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب وله سبيل إلى تحصيل سببه ، وبمثل هذا المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ، ويحدثه في نفسه فإن ذلك محال بل العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة ، والقادر الكل من خلق الله وفعله والله خلقكم وما تعملون هذا هو الحق عند ذوي الأبصار وما سوى هذا ضلال .

فإن قلت أفليس : للعبد اختيار في الفعل والترك قلنا : نعم وذلك لا يناقض قولنا : إن الكل من خلق الله تعالى بل الاختيار أيضا من خلق الله ، والعبد مضطر في الاختيار الذي له ; فإن الله إذا خلق اليد الصحيحة .

وخلق الطعام اللذيذ وخلق الشهوة للطعام في المعدة ، وخلق العلم في القلب ، بأن هذا الطعام يسكن الشهوة وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة ، وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا ? ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الإرادة الباعثة على التناول فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة ، وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختيارا ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة ، إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل ضروريا فتحصل الحركة فتكون الحركة بخلق الله بعد حصول القدرة ، وانجزام الإرادة ، وهما أيضا من خلق الله ، وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع وهما أيضا من خلق الله تعالى ، ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيبا جرت به سنة الله تعالى في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا فلا يخلق الله حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة ، وما لم يخلق فيها حياة ، وما لم يخلق إرادة مجزومة ، ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلا في النفس ، ولا ينبعث هذا الميل انبعاثا تاما ما لم يخلق علما بأنه موافق للنفس إما في الحال ، أو في المآل ، ولا يخلق العلم أيضا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم ، فالعلم والميل الطبيعي أبدا يستتبع الإرادة الجازمة والقدرة والإرادة أبدا تستردف الحركة وهكذا ، الترتيب في كل فعل ، والكل من اختراع الله تعالى ، ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض ; فلذلك يجب تقدم البعض وتأخر البعض كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم ، ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة ، ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم فيكون ، خلق الجسم شرطا لحدوث الحياة لا أن ; الحياة تتولد من الجسم ، ويكون خلق الحياة شرطا لخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة ، ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حيا ويكون خلق العلم شرطا لجزم الإرادة ، لا أن العلم يولد الإرادة ، ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حي عالم ولا يدخل في الوجود إلا ممكن والإمكان ، ترتيب لا يقبل التغيير لأن تغييره محال ، فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل به لقبول الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب ، والعبد مجري هذه الحوادث المرتبة وهي مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واحد كلمح البصر ترتيبا كليا لا يتغير وظهورها بالتفصيل مقدر بقدر لا يتعداها وعنه العبارة بقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر .

التالي السابق


(والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى) لكثرتها، (والإجماع منعقد من الأئمة على وجوبها إذ معناه العلم بأن الذنوب والمعاصي كلها) سمائم (مهلكات) هلاك للأبد، (ولكن قد تدهش الغفلة عنه فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة، ولا خلاف في وجوبها، ومن معانيها ترك المعاصي في الحال) والتخلي عنها، (والعزم على تركها في الاستقبال) بأن لا يعود لها، ولمثلها أبدا، (وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال، وهذا لا يشك في وجوبه .

وأما التندم على ما سبق) وفرط منه، (والتحزن عليه فواجب) أيضا، (وهو روح التوبة) ، ومعظم أركانها، (وهو تمام التلافي فكيف لا يكون واجبا، بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فاته من العمر، وضاع) سبهللا (في سخط الله) ، وأنواع ما يكرهه .

(فإن قلت: تألم القلب أمر ضروري لا يدخل تحت الاختيار) لأنه حال ينتج من المعرفتين كما تقدم، (فكيف يوصف بالوجوب؟

فاعلم أن سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب) ، وفقده السعادة، (وله سبيل إلى التحصيل سببه، وبمثل هذا المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد، ويحدثه في نفسه) ، ولا يعقل منه أن العلم يولد الندم، والندم يولد العزم على الترك. (بل العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة، والقادر الكل من خلق الله وفعله) كما قال تعالى: ( والله خلقكم وما تعملون ) على أن ما مصدرية أي: وعملكم، (وهذا هو الحق) المقبول الراجح (عند ذوي الأبصار) من أهل السنة والجماعة، (وما سوى هذا ضلال) نعوذ بالله من ذلك .

وفي قوله تعالى: تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها رد على من يقول بالتولد كما سبق، وإنما اقتضت حكمة رب الأرباب خلق المسببات عند خلق الأسباب فيخلق الري عند شرب الماء، ويخلق الشبع عند أكل الخبز، وهذا العلم واجب لأنه من نفس الإيمان بالقدرة، ومن اعتقد غير ذلك فقد جعل لله شريكا في أفعاله، وما أنزل بذلك من سلطان، هذا على طريق الإجمال، وقد أشار المصنف إلى هذا بالتفصيل، وقال: (فإن قلت: أوليس للعبد اختيار في الفعل والترك) فقد يريد فعل كل شيء فيختار تركه، وبالعكس، (قلنا: نعم) له ذلك، (وذلك لا يناقض قولنا: إن الكل من خلق الله) وحده، (بل الاختيار أيضا من خلق الله، والعبد مضطر في الاختيار الذي له; فإن الله تعالى إذا خلق اليد الصحيحة) السالمة من العيوب (وخلق الطعام اللذيذ) المشتهى، (وخلق الشهوة للطعام في المعدة، وخلق العلم في القلب، بأن هذا الطعام مسكن للشهوة) أي: شهوة الجوع، (وخلق الخواطر المتعارضة مع بعضها في أن هذا الطعام هل فيه مضرة) بدنية أم لا (مع) علمه (أنه يسكن الشهوة، وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا ؟ ثم خلق الله العلم بأنه لا مانع) عن تناوله (ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الإرادة الباعثة على التناول) منه، (فانجزام الإرادة بعد تعدد الخواطر المتعارضة، وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختيارا) ، والجزء الاختياري، (ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه) المذكورة، (فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام) اللذيذ (لا محالة، إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل [ ص: 509 ] ضروريا فتحصل الحركة بخلق الله تعالى بعد حصول القدرة، وانجزام الإرادة، وهما أيضا من خلق الله، وانجزام الإرادة يحصل بعد الشهوة) ، وهو ما يختل البدن بدونه، (والعلم بعدم الموانع وهما أيضا من خلق الله تعالى، ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتبا جرت به سنة الله تعالى في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا) أي: تغييرا (فلا يخلق الله تعالى حركة اليد بكتابة منظومة) متناسبة الأطراف (ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة، وما لم يخلق فيها حياة، وما لم يخلق إرادة مجزومة، ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق فيها شهوة وميلا في النفس، ولا ينبعث هذا الميل انبعاثا تاما ما لم يخلق علما بأنه موافق للنفس إما في الحال، أو في المآل، ولا يخلق العلم أيضا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة ولذاذة وعلم، فالعلم والميل الطبيعي أبدا يستتبع الإرادة الجازمة والإرادة والقدوة أبدا يستردف الحركة، وهذا الترتيب في كل فعل، والكل من اختراع الله تعالى، ولكن بعض مخلوقاته شرط للبعض; فلذلك يجب تقدم البعض) في الوجود (وتأخر البعض كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم، ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة، ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم، ويكون) حينئذ (خلق الجسم شرط لحدوث الحياة) فيه (لا; لأن الحياة تتولد من الجسم، ويكون) كذلك (خلق الحياة شرطا لخلق العلم) فيها (لا لأن العلم يستولد من الحياة، ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حيا) أي: موصوفا بالحياة، (ويكون) كذلك (خلق العلم شرطا لجزم الإرادة، لا لأن العلم يولد الإرادة، ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حي عالم) أي: موصوف بالحياة والعلم، هذا هو الحق عند أهل الحق (ولا يدخل في الوجود) سواء كان بإحدى الحواس، أو بقوة الشهوة، أو بواسطة العقل، (إلا ممكن، وللإمكان ترتيب لا يقبل التغيير) والتبديل; (لأن تغييره محال، فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل لقبول) ذلك (الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد) لقبوله، (ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله) تعالى (ترتيب، والعبد مجرى هذه الحوادث المرتبة) أي: محل لجريانها عليه، (وهي مرتبة) إجمالا (في قضاء الله الذي هو واحد) لا شريك له في فعله (كلمح البصر) ، أو هو أقرب (ترتيبا كليا لا يتغير) ، ولا يتبدل، (وظهورها بالتفصيل مقدر بقدر لا تتعداه) ، ولا تتجاوز طوره، (وعنه العبارة بقوله تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر ) أي: إنا خلقنا كل شيء مقدرا ومرتبا على مقتضى الحكمة، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده، وقرئ بالرفع على الابتداء، وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبرا لا نعتا; ليطابق المشهور في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب قواعد العقائد .




الخدمات العلمية