وأما الآثار فقد قال : أنزل قوله تعالى : سعيد بن المسيب فإنه كان للأوابين غفورا في الرجل يذنب ، ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب .
وقال الفضيل قال الله تعالى : وحذر الصديقين أني : إن وضعت عليهم عدلي عذبتهم . بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قبلت منهم
وقال طلق بن حبيب إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العبد ، ولكن أصبحوا تائبين ، وأمسوا تائبين .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من ذكر خطيئة ألم بها فوجل منها قلبه محيت عنه في أم الكتاب .
ويروى أن نبينا من أنبياء بنى إسرائيل أذنب فأوحى الله تعالى إليه : وعزتي لئن عدت لأعذبنك ، فقال : يا رب أنت أنت وأنا أنا وعزتك إن لم تعصمني لأعودن ، فعصمه الله تعالى .
وقال بعضهم : إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادما حتى يدخل الجنة فيقول إبليس : ليتني لم أوقعه في الذنب .
وقال حبيب بن ثابت تعرض على الرجل ذنوبه يوم القيامة فيمر بالذنب فيقول : أما إني قد كنت مشفقا منه : فيغفر له .
ويروى أن رجلا سأل عن ذنب ألم به هل له من توبة ? فأعرض عنه ابن مسعود ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان فقال له : إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكا موكلا به لا يغلق فاعمل ، ولا تيأس . ابن مسعود ،
وقال عبد الرحمن بن أبي القاسم : تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر ، وقول الله تعالى : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف فقال : إني لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالا ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلام بعد إسلام .
وقال عبد الله بن سلام لا أحدثكم إلا عن نبي مرسل أو كتاب منزل : إن العبد إذا عمل ذنبا ، ثم ندم عليه طرفة عين سقط عنه أسرع من طرفة عين .
قال رضي الله عنه : اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة . عمر
وقال بعضهم : أنا أعلم متى يغفر الله لي قيل : ومتى ? قال : إذا تاب علي .
وقال آخر : أنا من أن أحرم التوبة أخوف من أن أحرم المغفرة أي المغفرة من لوازم التوبة وتوابعها لا محالة .
ويروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ، ثم عصاه عشرين سنة ، ثم نظر في المرآة ، فرأى الشيب في لحيته ، فساءه ذلك فقال إلهي : أطعتك عشرين سنة ، ثم عصيتك عشرين سنة ، فإن رجعت إليك أتقبلني ? فسمع قائلا يقول ولا يرى شخصا : أحببتنا فأحببناك ، وتركتنا فتركناك ، وعصيتنا فأمهلناك ، وإن رجعت إلينا قبلناك .
وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى إن لله عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق القلوب وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندما وحزنا ، فجنوا من غير جنون وتبلدوا من غير عي ولا بكم وإنهم ، هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء ، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت أفكارهم بين سرايا حجب الجبروت واستظلوا تحت رواق الندم ، وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة ، وعروة السلامة ، وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم ، وخاضوا في بحر الحياة ، وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة ، وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة فهذا القدر كاف في بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة .
فإن قلت أفتقول ما قالته المعتزلة من أن قبول التوبة واجب على الله فأقول : لا أعني بما ذكرته من وجوب قبول التوبة على الله إلا ما يريده القائل بقوله : إن الثوب إذا غسل بالصابون وجب زوال الوسخ وإن العطشان إذا شرب الماء وجب زوال العطش وأنه إذا منع الماء مدة وجب العطش ، وأنه إذا دام العطش وجب الموت وليس في شيء من ذلك ما يريده المعتزلة بالإيجاب على الله تعالى ، بل أقول : خلق الله تعالى الطاعة مكفرة للمعصية ، والحسنة ماحية للسيئة ، كما خلق الماء مزيلا للعطش ، والقدرة متسعة بخلافه لو سبقت به المشيئة ، فلا واجب على الله تعالى ولكن ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب كونه لا محالة .
فإن قلت : فما من تائب إلا وهو شاك في قبول توبته والشارب للماء لا يشك في زوال عطشه فلم يشك فيه ? فأقول : شكه في القبول كشكه في وجود شرائط الصحة ; فإن للتوبة أركانا ، وشروطا دقيقة كما سيأتي وليس يتحقق وجود جميع شروطها كالذي يشك في دواء شربه للإسهال فإنه هل يسهل وذلك لشكه في حصول شروط الإسهال في الدواء باعتبار الحال والوقت وكيفية خلط الدواء ، وطبخه ، وجودة عقاقيره ، وأدويته ، فهذا وأمثاله موجب للخوف بعد التوبة ، وموجب للشك في قبولها لا محالة على ما سيأتي في شروطها إن شاء الله تعالى .