وما قاله كل واحد من الفريقين لا يخلو عن حق وعن قصور عن كمال الحقيقة .
والحق فيه أن له حالتان إحداهما أن يكون انقطاع نزوعه إليها بفتور في نفس الشهوة فقط ، فالمجاهد أفضل من هذا إذ تركه بالمجاهدة ، قد دل على قوة نفسه واستيلاء دينه على شهوته فهو دليل قاطع على قوة اليقين ، وعلى قوة الدين ، وأعني بقوة الدين قوة الإرادة التي تنبعث بإشارة اليقين ، وتقمع الشهوة المنبعثة بإشارة الشياطين ، فهاتان قوتان تدل المجاهدة عليهما قطعا وقول القائل إن هذا أسلم ، إذ لو فتر لا يعود إلى الذنب فهذا صحيح ، ولكن استعمال لفظ الأفضل فيه خطأ وهو كقول القائل العنين أفضل من الفحل لأنه في أمن من خطر الشهوة والصبي أفضل من البالغ ; لأنه أسلم والمفلس أفضل من الملك القاهر القامع لأعدائه ; لأن المفلس لا عدو له والملك ربما يغلب مرة ، وإن غلب مرات ، وهذا كلام رجل سليم القلب ، قاصر النظر على الظواهر غير عالم بأن العز في الأخطار ، وأن العلو شرطه اقتحام الأغرار بل كقول القائل : الصياد الذي ليس له فرس ولا كلب أفضل في صناعة الاصطياد ، وأعلى رتبة من صاحب الكلب والفرس ; لأنه آمن من أن يجمح به فرسه فتنكسر أعضاؤه عند السقوط على الأرض ، وآمن من أن يعضه الكلب ويعتدي عليه ، وهذا خطأ ، بل صاحب الفرس والكلب إذا كان قويا عالما بطريق تأديبهما أعلى رتبة وأحرى بدرك سعادة الصيد . الذي انقطع نزوع نفسه
الحالة الثانية أن يكون بطلان النزوع بسبب قوة اليقين ، وصدق المجاهدة السابقة ; إذ بلغ مبلغا قمع هيجان الشهوة ، حتى تأدبت بأدب الشرع ، فلا تهيج إلا بالإشارة من الدين ، وقد سكنت بسبب استيلاء الدين عليها ، فهذا أعلى رتبة من المجاهد المقاسي لهيجان الشهوة وقمعها ، وقول القائل : ليس لذلك فضل ، الجهاد قصور عن الإحاطة بمقصود الجهاد ، فإن الجهاد كان مقصودا لعينه ، بل المقصود قطع ضراوة العدو حتى لا يستجرك إلى شهواته ، وإن عجز عن استجرارك فلا يصدك عن سلوك طريق الدين ، فإذا قهرته وحصلت المقصود فقد ظفرت ، وما دمت في المجاهدة فأنت بعد في طلب الظفر ، ومثاله كمثال من قهر العدو واسترقه بالإضافة إلى من هو مشغول بالجهاد في صف القتال ، ولا يدري كيف يسلم ، ومثاله أيضا مثال من علم كلب الصيد وراض الفرس فهما نائمان عنده بعد ترك الكلب الضراوة والفرس الجماح بالإضافة إلى من هو مشغول بمقاساة التأديب بعد ، ولقد زل في هذا فريق فظنوا أن الجهاد هو المقصود الأقصى ولم يعلموا أن ذلك طلب للخلاص من عوائق الطريق وظن آخرون أن قمع الشهوات وإماطتها بالكلية مقصود حتى جرب بعضهم نفسه ، فعجز عنه فقال : هذا محال ، فكذب بالشرع وسلك سبيل الإباحة ، واسترسل في اتباع الشهوات وكل ذلك جهل وضلال ، وقد قررنا ذلك في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات .